ب- أما التفوق في التعبير عن حركات النفس فيتمثل في قوله تعالى: " ولقد جاءت رسلنا إبراهيمَ بالبشرى، قالوا سلاماً، قال: سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نَكِرَهم، وأوجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف، إنا أرسلنا إلى قوم لوط ... فلما ذهب عن إبراهيم الروعُ وجاءته البشرى، يجادلنا في قوم لوط" (هود – 69، 70، 74).
لاحظ أن الرسل قالوا سلاماً، أي: قالوا أي عبارة فيها معنى السلام أي: كأنه قال: "قالوا سلاماً" ما .. ولذلك لم نضع نقطتين بعد (قالوا).
أما إبراهيم فقال: سلام، أي: خصّهم بتحية الإسلام المعهودة وهي (سلام). وقد يُسأل: لماذا لم يكمل السلام بأن يقول: عليكم سلام، أو سلام عليكم؟ الجواب – أن الاكتفاء بكلمة (سلام) يدل على حالة إبراهيم النفسية؛ فهؤلاء الضيوف قوم غرباء، ولذلك فأول ما يتبادر إلى ذهن إبراهيم الشّك فيهم. ولهذا كان احتشاده النفسي وتوتره العصبي - في مثل حالة الشك هذه – لا يجعلانه يسيل بالألفاظ، وإنما يقتصر على الحد الأدنى من السلام، ليظل متنبهاً حذراً مما عساهم يأتون به من شرّ. إنه يريد – بوعي وبغير وعي – أن يدّخر قوته للفعل إذا لزم الفعل.
ثم .. لاحظ أن إبراهيم أوجس خيفة من هؤلاء الضيوف / الملائكة الذين ظهروا بصورة البشر – فلما طمأنوه، إذ قالوا له: " لا تخف، إنا أرسلنا إلى قوم لوط" وعرف أنهم ملائكة .. ذهب عنه الروع أي: الفزع أو الخوف الشديد. عندئذ .. أخذ يجادلهم في قوم لوط. هذا يعني أنه ما كان يمكن – نفسياً – أن يجادلهم في قوم لوط، قبل أن يذهب عنه الروع. فالشيء الطبيعي الذي يقرّه العقل هو أن يدّخر قوته النفسية لكي يجادلهم في شأنه هو لا في شأن قوم لوط، لأن الإنسان في الأصل يدافع عن نفسه قبل أن يدافع عن غيره. أما ترى في أسطورة "الإلياذة" أن البحّارة الذين عضّهم الجوع بنابه أوقدوا النار وصنعوا لهم طعاماً وأكلوا حتى شبعوا، وبعد ذلك .. بكواْ على زميلهم الذي التهمته حيتان البحر (3)؟
أفترى أن هناك تعبيراً عن طبيعة النفس البشرية أدقّ من هذا التعبير في مثل هذه الحالة؟
ثم .. لاحظ أن التعبير لم يكن: (أخذ يجادلنا في قوم لوط) وإنما استغنى عن (أخذ) وبدأ بكلمة (يجادلنا)، لأن التعبير المقترح يعني أنه تمهّل – بعد أن ذهب عنه الروع – قبل أن يبدأ بالجدال، أما تعبير القرآن فهو يدل على أنه – بعد أن ذهب عنه الروع _ هجم هجوماً على مجادلتهم، وما كان ممكناً – حسب حالته النفسية – أن يفعل غير ذلك، أي: أن يتمهّل، لأن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، ولذلك كان ملهوفاً أن يقدم رأيه لهم في قوم لوط (لأنه، أي: إبراهيم كان يخشى أن يصيب ابن أخيه ما يصيب قوم لوط). فإذا عرفت أن إبراهيم عرف أنهم ملائكة (إذ أخبروه بذلك)، والملائكة قد يختفون خلال لحظة واحدة، فلا بد من أن يهجم على مجادلتهم هجوماً، حتى يعرف رأيهم قبل أن يختفوا ولو كانوا بشراً، فقد يماشيهم إذا غادروا بضع كيلوات مِترية، قبل أن يتركهم، وفي أثناء ذلك يحدثهم أو يجادلهم في قوم لوط، وعند ذلك فلا حاجة إلى الهجوم على جدالهم هجوماً، ولكن الحالة هي على وصفنا آنفاً.
ثم .. لاحظ أن القرآن لم يقل – وقوله الحق –: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع يجادلنا في قوم لوط) بل جاءت عبارة متوسطة بينهما هي: (وجاءته البشرى) (4)، لأن العبارة لو كانت على الوجه الأول لضعف قول القرآن: (يجادلنا في قوم لوط) من ناحية نفسية. لماذا؟ الجواب أن الذي (يذهب عنه الروع) فحسب .. لا بد من أن يقضيَ وقتاً .. خمس دقائق بل أو خمس ساعات " يلملم" تشتّت نفسه قبل أن يتجاوز شأن نفسه، وينتقل إلى المجادلة في شأن ابن أخيه.
لكن عبارة (وجاءته البشرى) جعلته ينتقل (بثقة) من حالة التشتت النفسي إلى حالة الاجتماع النفسي، بحيث أصبح طبيعياًّ في مثل هذه الحالة التي اجتمعت فيها نفسه أن يتجاوز التشتت، وأن ينتقل إلى المجادلة في شأن ابن أخيه – لوط.
فإذا عرفت أن القرآن لم يقل: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع .. جاءته البشرى) أي: دون إدخال " واو" العطف، بل جاء بواو العطف – أدركت أن الأمر جاء على أحكم تعبير عن حالة إبراهيم النفسية؛ لأن التعبير – دون واو – يعني أن البشرى جاءت إبراهيم بعد أن ذهب عنه "الروع" وقبل أن يلملم تشتّت نفسه، ولكن – الواو – تعني أنه مضى وقت – ما – بين ذهاب الروع عن إبراهيم، وبين مجيء البشرى له. هذا الوقت كان " كافياً " ليلملم شعث نفسه، إذن – عندما جاءته البشرى كان في حالة نفسية طبيعية، مكّنته من أن ينتقل – بعد مجيء البشرى مباشرة – للمجادلة في شأن قوم ابن أخيه لوط.
الهوامش:
- الترمذي: محمد ابن عيسى السُّلَميّ – السنن: 8/ 113 - القاهرة / مطبعة مصطفى البابي الحلبي – تحقيق أحمد محمد شاكر.
مسلم ابن الحجاج القشيريّ – الصحيح: 4/ 3395 – بيروت / دار إحياء التراث العربي.
الأساطير أعمال أدبية تعبر عن الحياة البدائية، ولكنها تحسن التعبير عن حالات النفس البشرية، لأن النفس .. صُقلت، ولكن لم تتطور على طول العصور، يدلك على ذلك أن الشعر العربي الجاهلي يعبر عن فطرة النفس أكثر من تعبير الشعر في العصور اللاحقة، أما العقل فقد تطوّر.
البشرى: هي أن الملائكة بشّرت زوجة إبراهيم بأنه سيأتيه غلامان من زوجته العجوز: " وامرأته قائمة فبشّرناها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب" (هود – 71).
مجلة الفرقان
¥