بَحْرُ الْمَحْمولِ ... د. محمد جمال صقر (بحر محدث!!!!)
ـ[أبوعبدالرحمن الدرعمي]ــــــــ[27 - 03 - 06, 11:15 ص]ـ
كنت قبل شراء هاتفي المحمول، في مَنْدوحَةٍ وبُحْبوحَةٍ!.
أغيب أغيب أغيب، ثم أحضر فجأة؛ فلا يكون أحسن في الغياب من غيابي، ولا أحسن في الحضور من حضوري!
ثم ماذا؟
ثم لم أجد محيصا ولا مناصا من أن أستعمله ...
فاشتريت جهاز نوكيا 6510 - هكذا هو فيما ما أظن! - الذي يسمونه "العصفورة"، ولو سموه "الغراب"، كان أشبه، إلا إذا كانوا لمحوا في تسميتهم معنى التَّجَسُّس والتَّحَسُّس الواضحين في عبارة المصريين كلما عرفوا أمرا خفيا "العَصْفورا قالِتْ لي"، أو إلا إذا كانوا أشاروا إلى الباب الصحفي الساخر الشهير "العُصْفورَة"، الذي أظن أننا كنا نَتَفَقَّدُه قديما أول ما نتفقد من صحيفة الوفد المصرية!
علم ذلك أحد أستاذتي العلماء الفنانين؛ فكتب لي هذه الرسالة باللهجة المصرية الساخرة، في أول ما كتب الناس لي:
" مَبْروكِ الْمَحْمولْ
عُقْبالِ الْمَحْمولْ فيهْ "!
هكذا من دون تشكيل، بلا ريب - وإنْ دَقَّقْتُ به تَسْجيلها - فاستثارني تَوًّا إلى هذه الرسالة باللغة العربية:
" وَإِذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا أَتْعَبَتْ في مُرادِها الْمَحْمولا "!
التي سرقتُها من قول سيدنا أبي الطيب - وما أكثر السارقين منه!:
" وَإِذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ "!
فلسفة بفلسفة، والبادئ أظلم!
ثم ضرب الدهر ضَرَبانَه، حتى سهرنا معا أنا وبعض أساتذي وأصدقائي، في كرامة أستاذي ذلك العالم الفنان نفسه؛ فكان بهجةَ المجلس؛ إذ استطرد بحديثه إلى "شِعْرٍ إِخْوانيٍّ بَريديٍّ" حدث بينه وبين بعض أصدقائه؛ فاستطردت إلى "شِعْرٍ إِخْوانيٍّ مَحْموليٍّ" حدث بيني وبين بعض أصدقائي، من مثل رسالة بعضهم:
" طَفِئَتْ آدابُنا وَانْدَرَسَتْ غَيْرَ ما خَلَّفَ مَحْمودُ بْنُ شاكِرْ "!
التي جاملني فيها بالثناء على أبي فِهْرٍ محمود محمد شاكر - رحمه الله! - أستاذي.
ورسالتي في جوابه:
" كَيْفَ وَالْعَبْسيُّ يَزْدادُ عَلى ما دَهاهُ الدَّهْرُ نورًا وَنَوادِرْ "!
التي جاملته فيها بالثناء على أبي مسلم البهلاني - رحمه الله! - أستاذ أساتذته.
وبينت وَجْهَ شَبَهِ تلك المراسلات بفنون المساجلة والمماتنة والإجازة، القديمة التي كان العربيان يتطارحان فيها النظم، قولا بقول، وأنه لَمّا زادني صديقي هذا بيتا آخر، وكنت في عمل لازم، لم أستطع إلا أن أقول له في رسالة أخيرة رَحِمَني بَعْدَها:
" أَعْجَزَتْني عَنْ إِجازاتِ الأكابِرْ خَطَراتُ الْعِلْمِ في وَهْمِ الأصاغِرْ "!
ثم استطردت ثانيا إلى رسالة أردت أن أعتذر بها عن تقصيري في حق بعض أصدقائي؛ فلم يتيسر لي غير قول الشاعر المصري عبد الوهاب محمد، باللهجة المصرية:
" يا سيدي مَسِّ عَلينا
أَوْ حَتّى صَبَّحْ بِكِلْمَهْ
يِعِزِّ زَعَلَكْ عَلينا
وِتِصْبَحِ الدُّنْيا ضَلْمَهْ "!
فقال بعض أصدقاء المجلس نفسه: لكن هذا من أغنية "لطيفة"!
فقلت: هذا لأنني أنا ولطيفة طلعنا معا!
فضحكوا كثيرا.
ثم استطردت ثالثا إلى رسائل التهنئة المحمولية، بمقدم شهر رمضان الكريم هذه السنة 1426، التي كانت تصلني ساذجة، كأن مرسليها مضطرون إليها خشيةَ الإهمال - كيف فكرت في جوابها، فاستحسنت من تَسْحيرَةٍ باللهجة المصرية للشاعر فؤاد حداد، قوله:
" دي لَيالي سِمْحَه
نُجومْها سِبْحه
اِصْحَ يا نايِمْ
يا نايِمِ اصْحَ
وَحِّدِ الرَّزاقْ
رَمَضانْ كَريمْ "!
فأحيتْ ذكرى رمضان الموغلة في نفوس المصريين، وأثرت فيهم وفي غيرهم تأثيرا كبيرا، حتى راسلوني - ثم قابلوني - بالثناء عليها! ولكنها عرضتني لظن بعضِ غير المصريين، أنني أنبهه بـ "اصْحَ يا نايِمْ يا نايِمِ اصْحَ" على شيء؛ فرتَّبَ لي أمسية، ثم دعاني إليها دعوة رسمية؛ لعلي أرضى!
ثم استطردت رابعا إلى رسائل التهنئة بعيد الفطر، المحمولية الاضطرارية الساذجة كذلك، كيف عَزَفْتُ عن مجاراتها إلى تدبيج هذه الرسالة الشعرية العربية:
" عيدٌ سَعيدٌ أَنْتَ لي
فَلْتَعُدْ
بِالْعادَةِ الْغالِيَةِ الْوافِيَهْ
بِزَهَراتِ الْعَفْوِ وَالْعافِيَهْ "!
ثم أقبلت أشرح كيف أعاني إحكام الرسائل العربية في مساحة سبعين حرفا فقط، لا تَبُثُّني "العصفورة" غيرها، وأنني أخرجت هذه الرسالة الأخيرة مثلا من بحر السريع، ثم لما ضاقت المساحة حذفت من حق الشعر العربي العمودي شطر البيت الآخر، ولا ريب في أنني لم أجد مكانا لاسمي؛ فلم يكن يعبأ بمعاناتي تلك، غير من يعرف رقم المرسل!
فقال بعض أصدقاء المجلس:
غَيِّرْ مَحْمولَك، وهات جهازا متطورا يُتيحُ لك مساحة وافية!
من باب " يا أَخي أَرِحْنا "!
ولكنني لم أنتبه، بل رأيت المجلس فرصة علمية مناسبة لطرح نظرية "شِعْرِ الْمَحْمولِ"، العبارة التي سمعتها من بعض ممثلي مسلسل كويتي؛ فلم أنسها!
ربما كتبها كاتب المسلسل عرضا، ولكنه انتبه بلا ريب، إلى نوع معاصر من الشعر ينبغي أن يؤصل ويفصل، كما أُصِّلَتْ تَوْقيعاتُ القُدَماءِ، وَفُصِّلَتْ!
أَكْثَرْتُ مرة أخرى حتى أَهْجَرْتُ؛ فاعتدل أستاذي العالم الفنان، ثم تَأَنّى حتى يستطيع أن يحفظ كلامَه من شاء، ثم قال:
أَنْتَ رَجُلٌ عَروضيٌّ؛ فَاجْعَلْ هذا الشِّعْرَ الَّذي عانَيْتَه، مِنْ بَحْرٍ تُسَمّيه "بَحْرَ الْمَحْمولِ"، ثم سَجِّلْهُ بِاسْمِكَ!
ولكنني لم أنتبه؛ فكتبت هذا المقال، أُرَوِّجُ لِبَحْرِيَ الْجَديد، مُسْتَعِدًّا لِتَوْصيلِ الشِّعْرِ مِنْهُ إِلى الْمَنازِل!
الدكتور محمد جمال صقر
مدرس بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة