ومن خلال هذه المواقف وبعد تأملها وأخذ العبر والعظات منها يتبين لنا الفرق بين تلقي ذلك الجيل لآيات القرآن الكريم، وتلقي غيرهم لها؛ حيث كانوا يهتمون بالتطبيق وبالعمل أكثر من اهتمامهم بالأقوال التي لا فائدة منها،ويتبين أيضاً أنهم كانوا يتركون الخوض في تفصيلات لا حاجة إليها ولا صلة لها بالواقع العملي الذي كانوا يهتمون به، وهذا هو ما يميز علم السلف –أهل الجهاد والعمل – عن علم الخلف – أهل الكلام والجدل – إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
[لابن رجب الحنبلي رسالة رائعة نفيسة بعنوان: فضل علم السلف على علم الخلف؛ من المناسب والجدير بطالب العلم أن يرجع إليها ويحرص على قراءتها.]
وقبل أن أذكر المواقف العملية التي تفسر لنا كلام ربنا وتبينه لنا، أرى من المناسب في هذا المقام أن أنقل مقتطفات من كلام أحد المفسرين الذين أكدوا على الجانب العملي في تفسير القرآن الكريم،وهو سيد قطب رحمه الله.
وأترك للقراء الكرام المجال لإبداء الرأي في قيمته ونفاسته، وذلك بعد قراءة كلامه التالي بتمعن وتأمل.
قال رحمه الله: (إن المسألة – في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته – ليست هي في فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي تفسير القرآن كما اعتدنا أن نقول!
المسألة ليست هذه .. إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهي تتلقاه في خضم المعترك .. معترك الجهاد جهاد النفس .. جهاد الشهوات جهاد الأعداء ... والبذل والتضحية، والخوف والرجاء، والضعف والقوة، والعثرة والنهوض، ... جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس ... جو الشِّعب والحصار، والجوع والخوف، والإضطهاد والمطاردة، والإنقطاع إلا عن الله .... ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم بين الكيد والنفاق والتنظيم والكفاح .. جو بدر وأحد والخندق والحديبية وجو الفتح وحنين وتبوك، جو نشأة الأمة المسلمة .......
في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية .. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها .. وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور .. ) اه
وقال رحمه الله: (إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ، وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل، أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود.
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا، كما
كانت الجماعة الإسلامية الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعية ..
وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية، تنبض وتتحرك وشير إلى معالم الطريق .. ).
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[18 May 2003, 06:57 ص]ـ
تابع دروس التفسير
من روائع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الآيات
سبقت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته معاني القرآن أتم بيان، سواء كان ذلك بأقواله أم بأفعاله ومواقفه من آياته، فكان كما قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن).
وهذا الموقف يبين لنا كيف كان يفسر القرآن، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يتأثر به ويقف مع توجيهاته:
أخرج البخاري في صحيحه [رقم 4770 وكذلك مسلم برقم 204، 205 بألفاظ مقاربه] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش، فقال – عليه الصلاة والسلام -: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟) قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً.
قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فقال أبولهب: تباً لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ... ) السورة (المسد:1، 2).
فمن هذا الموقف يتبين لنا بوضوح كيف كان صلى الله عليه وسلم يبادر بالإستجابة لأوامر الله تعالى في القرآن، ويأتمر بما أمره الله به فوراً من غير تردد ولا تأخر مهما كانت الظروف، ومهما واجهه من الصعوبات والأذى.
وما أحوجنا إلى تدبر هذا الموقف الرائع من النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الآية الكريمة التي لا تتجاوز كلماتها الأربع كلمات، وما أحوجنا إلى الوقوف عندها! ومن ثَّم تطبيق هذا الأمر الإلهي الذي ورد فيها، وإنذار الأقربين من عشائرنا.
فكم من داعية في هذا الزمان، وكم من طالب علم يقرأ القرآن، ولكن لا يقف عند هذه الآية، ولا يطبق ما جاء فيها، فهو لا يهتم بأقاربه، ولا يدعوهم إلى الله عز وجل، ولا يحذرهم من معصية الله؛ وهذا بلا شك دليل على بعدنا عن تعاليم القرآن، وعدم وقوفنا عند آياته على الوجه المطلوب، والله المستعان.
فإذا كنا - إخواني الكرام - حريصين على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فلنفعل كما فعل، مستعينين بالله، من غير تأخر ولا تردد.
وليقم كل واحد منا بالدعوة إلى الله بكل ما يستطيع من الوسائل،وليبدأ بأهله وذويه وأقرب الناس إليه.
وإذا كنا حريصين على الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فلنعلم أن أعظم شيء يدل على حسن وكمال التأسي به هو القيام بالدعوة إلى الله على بصيرة: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)
¥