وقال ابن الجزري في النشر في أثناء كلام له عن أول من جمع القراءات في كتاب، وعن عدد القراء الذين تنسب إليهم القراءات، قال: (وإنَّما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، أو أن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير، وأنها هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: {أنزل القرآن على سبعة أحرف} ... وإنَّما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا {أنزل القرآن على سبعة أحرف} وسمعوا قراءات السبعة، فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها؛ ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطّأوه في ذلك، وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد، أو زاده، أو بيّن مراده ليخلص من لايعلم من هذه الشبهة ...
وكان من جواب الشيخ الإمام مجتهد ذلك العصر أبي العباس أحمد ابن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية - رحمه الله -: لانزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة). [النشر لابن الجزري 1/ 36 - 39 باختصار. وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك في مجموع الفتاوى 13/ 395.]
وبهذا نعلم أن هذا القول من أضعف الأقوال، وأرى أن في نسبته للخليل لبن أحمد نظراً؛ فهو أجل من أن يخفى عليه ضعف هذا القول وبطلانه، ولعله يقصد بالقراءة معنى آخر غير المعنى الذي فهم عنه.
وأمَّا القول الثاني، وهو أن معنى الأحرف السبعة سبعة أنحاء، كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف الانحاء غيره، ومعنى الحرف عند أصحاب هذا القول: صنف من الأصناف.
فالقرآن نزل على سبعة أنحاء وأصناف، فمنها زاجر، ومنها آمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه، ومنها أمثال.
واحتجوا بحديث سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتبروا بأمثاله، وآمنوا بمتشابه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا}.
فقد رده ابن عبدالبر بقوله: (وهذا الحديث عند أهل العلم لايثبت، لأنه يرويه حيوة عن عقيل عن سلمة هكذا، ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب، عن سلمة ابن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمه، ليس ممن يحتج به.
وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم أحمد بن أبي عمران، قال: مَن قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه، أو يكون حلالاً لا ما سواه؛ لأنه لايجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله أو أمثال كله.
ذكره الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران سمعه منه، وقال: وهو كما قال ابن أبي عمران) ا هـ.
وهذا الحديث إن صح فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا {سبعة أحرف} أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا.
وبيان ذلك: أن ظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة، إلى سبعة توسعة للأمة، والشيء الواحد لايكون حلالاً وحراماً في آية واحدة، والتوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من الوجوه والمعاني المذكورة. [فتح الباري 8/ 646].
(والذي ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءات احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقرأ كل رجل منهم، ثُمَّ صوّب جميعهم في قراءاتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: {إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف}.
¥