إلى حرف واحد. [انظر: تفسير الطبري 1/ 58 - 67، وانظر: كتاب الطحاوي شرح مشكل الآثار 8/ 125 - 130.]
واختيار الصحابة لحرف واحد من الأحرف السبعة ليس فيه محذور، ولايترتب عليه ما يخل بحفظ القرآن الكريم؛ لأن القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة جائزة، وكل حرف من هذه الأحرف كاف شاف كما جاء ذلك في الأحاديث، والقارئ مخيرٌ بالقراءة بأي حرف منها، كما أن الذي عليه كفارة يمين مخير بأن يكفر بأي نوع من أنواع الكفارات، فإذا كفر بواحد منها فقد أدى ما عليه، ولم يقع في محذور، وكذلك من قرأ بحرف واحد من الأحرف السبعة فقد أدى ما عليه ولم يقع في محذور، وقد كان سبب اقتصارهم على حرف واحد من هذه الأحرف السبعة هو خوفُ الوقوع في المراء في القرآن الذي هو كفر، وخوفُ الاختلاف والتنازع كما هو واضح من حديث أنس في قصة حذيفة مع عثمان - رضي الله عنهم أجمعين -.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: (وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندي - والله أعلم -) ا هـ. [التمهيد 8/ 279.]
وبهذا يتبين رجحان القول الأول، وإن كان القول الثالث - الذي اختاره ابن الجزري - وهو أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة صحيحاً أيضاً؛ إذ لا تعارض بينه وبين القول الأول في الحقيقة.
وهذا ما قرّره ابن عبد البر- رحمه الله - بقوله: (وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلاَّ حرف واحد، وهو صورة مصحف عثمان، وما دخل فيه مِمَّا يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف) ا هـ. [التمهيد 8/ 296.]
ونظراً لتداخل هذين القولين فإن ابن الجزري - رحمه الله - لم يذكر القول الأول في كتابه النشر عندما عرض أقوال العلماء في هذه المسألة، وإنَّما اكتفى بذكر القولين الثاني والثالث، ورجح الثالث.
فالقول الثالث في الحقيقة مشتمل على القول الأول؛ لأنه إن لم يبق من الأحرف السبعة إلاَّ حرف واحد، كما هو مذهب الطبري والطحاوي وابن عبدالبر وغيرهم فالمصاحف مشتملة عليه، وهو الذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه - كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -. [انظر: مجموع الفتاوى 13/ 395.]
وإن فرض أنه بقى أكثر من حرف واحد، واشتملت عليها المصاحف العثمانية فليس في هذا ما يناقض ما سبق.
قال ابن حجر في الفتح: (والحق أن الذي جُمِعَ في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بعض ما اختلف فيه [من] الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 100] في آخر براءة، وفي غيره بحذف {مِنْ}، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاآت وعدة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصاً واحداً وأمره بإثباتهما على الوجهين.
وما عدا ذلك من القراءات مِمَّا لايوافق الرسم فهو مِمَّا كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان، وكفر بعضهم بعضاً اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي) ا هـ[فتح الباري لابن حجر 8/ 646، 647.]
ولعل ما ذكره الإمام أبو العباس المهدوي في شرح الهداية يعتبر خلاصة ما سبق وهو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وتقريره في هذه المسألة، حيث قال: (وأصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك - إن شاء الله -: أن ما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن.
وتفسير ذلك: أن الحروف السبعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها تجري على ضربين:
أحدهما: زيادة كلمة ونقص أخرى، وإبدال كلمة مكان أخرى، وتقدمة كلمة على أخرى، وذلك نحو ما روي عن بعضهم: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج} [البقرة: 195] ... ورُوي عن بعضهم: {وجاء سكرة الحق بالموت} [ق: 18]، فهذا الضرب وما أشبهه متروك لاتجوز القراءة به، ومن قرأ بشيء منه غير معاند ولا مجادل عليه وجب على الإمام أن يأخذه بالأدب بالضرب والسجن على ما يظهر له من الاجتهاد، فإن قرأ به وجادل عليه ودعا الناس إليه وجب عليه القتل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المراء في القرآن كفر} ولإجماع الأمة على اتباع المصحف المرسوم.
والضرب الثاني: ما اختلف فيه القراء من إظهار وإدغام وروم وإشمام وقصر ومدّ، وتخفيف وشدّ، وإبدال حركة بأخرى، وياء بتاء وواو بفاء وما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب، فهذا الضرب هو المستعمل في زماننا هذا، وهو الذي عليه خط مصاحف الأمصار، سوى ما وقع فيه من اختلاف في حروف يسيرة.
فثبت بهذا أن هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة، وتُرك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم المصحف، إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، وإذ قد أباح النبي عليه السلام لنا القراءة ببعضها دون بعض لقوله عزوجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} [المزمل: 20] فصارت هذه القراءات المستعملة في وقتنا هذا هي التي تيسرت لنا بسبب ما رآه سلف الأمة من جمع الناس على هذا المصحف؛ لقطع ما وقع بين الناس من الاختلاف وتكفير بعضهم لبعض، فهذا أصح ما قال العلماء في معنى هذا الحديث، وما أشبهه من الأحاديث المأثورة عن النبي عليه السلام) ا هـ. [شرح الهداية للإمام أبي العباس المهدوي 1/ 5 - 7 باختصار يسير.]
¥