ولا شكَّ أنَّ عدم ورود تفسيرات جزئية لهذه المسائل التي بحثها المتأخرون لا يعني أنَّ السلف كانوا يفوضونها؛ لأنَّ هذا لم يرد عنهم البتة، كما لم يرد عنهم إنكار معنى صفة من الصفات ولا اسم من الأسماء، ولهذا لا مدخل لهم في كون النبي r لم يفسر جميع القرآن، فهم يُلزمون بأن يثبتوا بالنقل أنَّ السلف فوَّضوا المعاني أو أنكروا معانيها كما يفعل المتأخرون، والموضوع في هذا طويل، والمراد التنبيه على أنَّه لا حجة لهؤلاء في تفسيراتهم المبتدعة بكون الرسول r لم يفسر جميع القرآن، والله أعلم.
% أنه لا يوجد في القرآن ما خفِيَ علمه على الصحابة، وظهر لمن بعدهم بلا علمٍ ولا دليل ولا حجة يقوم عليها ذلك التفسير؛ كتفسيرات الرافضة والقرامطة وغيرهم من الغلاة الذين يزعمون أنَّ عندهم من تفسيره ما لا يُعلَم إلا من جهتهم.
وليس ردُّ هذه التفسير لكونه لما ترد عن السلف فقط، بل لأنها باطلة في ذاتها، قال شيخ الإسلام (ت: 728):» وقوله] يعني: الغزالي [: إن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير للصحابة، فإن التقليد غالب عليك.
يقال له: إنما لم أحتمل هذا النمط لأني أعلم بالاضطرار أنه باطل، وأن الله لم يُرِدْهُ فَرَدِّي للقَرْمَطَةِ في السمعيات كَرَدِّي للسفسطة في العقليات، وذلك كَرَدِّي لكل قول أعلم بالاضطرار أنه كذب وباطل. ولو نقل مثل هذا النمط عن أحد من الصحابة والتابعين، لعلمت أنه كذب عليهم، ولهذا تجد القرامطة ينقلون هذا عن علي u ، ويدَّعون أنَّ هذا العلم الباطن / المخالف لما علم من الظاهر مأخوذ عنه، ثم لم يستفيدوا بهذا النقل عن علي u عند المسلمين إلا زيادة كذب وخزي، فإن المسلمين يعلمون بالاضطرار أن عليًّا لا يقول مثل هذا، وأهل العلم منهم قد علموا بالنقول الصحيحة الثابتة عن علي ما يبين كذب هذا، ويبين أن من ادعى على علي أنه كان عنده عن النبي r علم خصه به فقد كذب، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع «().
% أنه لا يوجد في تفسير القرآن ما أخفاه الرسول r عن الصحابة t ، ولا ما أخفاه على بعضهم وعلَّمه غيرهم عن قصدٍ، ولا ما علَّمه بعض الصحابة واستأثروا بعلمه فلم يُعلِّموه، ولا ما خصُّوا به بعض التابعين عن قصدٍ، حتى يصل إلى بعض الناس دون غيرهم، فكلُّ هذا مما يخالف ما هو معلوم من نقل الآثار بالضرورة، ويعرف كل من قرأ في آثار السلف عمومًا أنه لا يوجد مثل هذه العلوم الخاصة التي يزعمها بعض الرافضة أو الصوفية أو الباطنية.
ولا شكَّ أن كلام شيخ الإسلام من حيث وجود بيان لجميع القرآن عن رسول الله r بجميع ألفاظه وجُمَلِهِ فيه إشكالٌ، ويلزم منه أنَّ الصحابة الذين فسروا القرآن كانوا يفسرونه بتفسير النبي r ولا ينسبونه إليه، أو أن يكون شيء كثير منه لم يصل إلينا، وهذا من المسائل المشكلة، لو ثبتت.
والذي تدلُّ عليه الآثارُ ما يأتي:
% أنَّ النبي r كان له تفسيرات مباشرة لبعض آيات القرآن.
% أنَّ عموم سنته r شارحة للقرآن.
% أنَّ أصول الدين من المعاملات والشرعيات والاعتقادات قد بيَّنها الرسول r للصحابة بيانًا واضحًا لا لبس فيه، واختلافهم في بعض أفرادها لا يدلُّ على أنه لم يبينها لهم.
وهذا يسدُّ المدخل على المبتدعة الذين ناقشهم شيخ الإسلام، وعليه يُحمل كلامه في بيان الرسول r ، والله أعلم.
% أنَّ الصحابة كان لهم اجتهاد في بيان القرآن وتفسيره، ولم يقع خلافهم في أصول المسائل السابقة، وإنما وقع في جزئيات، بل ما وقع الخلاف فيه من جهة الاعتقاد نادرٌ جدًّا، وهو يرجع إلى صحَّةِ دلالة الآية على المسألة العقدية، لا على ثبوت المسألة العقدية عندهم؛ كالاختلاف في قوله تعالى:] يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون [] القلم: 42 [، فقد ورد عن ابن عباس وأصحابه أنه تكشف القيامة عن هول وكرب عظيم، وقد حمل بعض المفسرين الآية على ما ورد عن أبي سعيد الخدري وغيره من حديث الساق، وهو قول الرسول r :» يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا «().
¥