تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على هذا النحو، وهذا القسم من آيات القرآن الكريم وألفاظه لم ينقل عن النبي e تفسيره وبيانه، بل ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، لأن الاشتغال بهذا من العي والسفه الذي يجل عنه العقلاء فضلا عن مقام النبوة. وقد أشار فضيلة د. مساعد إلى هذا فيما نقله عن ابن عباس t في الوجه الأول من أوجه تفسير القرآن الكريم. ومن نافلة القول أن يشار إلى أن أهل العلم ممن تكلم في هذه المسألة كابن تيمية وغيره رحمهم الله قطعا لم يقصدوا في بحثهم أن النبي فسر هذا النوع من الألفاظ والتراكيب، وإذا سلمنا بهذا خرج من محل البحث كثير من آيات القرآن الكريم. وهنا لا بد من التنبيه على أنه لا يشكل على هذا ظهور العجمة في الناس بعد هذا، لما تفرق الصحابة في الأمصار ودخل كثير من العجم في الإسلام، مما أثر في السليقة العربية، فهذا أمر طرأ بعد أن لم يكن في زمن النبي e، بل حتى نحن اليوم يشكل علينا ألفاظ من القرآن الكريم كان عامة الناس حتى العوام منهم في القرون المتقدمة لا يجهلون المراد بها.

الثاني: وقسم آخر من القرآن الكريم، لا يفهمه العربي بلغته وسليقته اللغوية، وبعبارة أكثر دقة: لا يفهم المراد منه، وإن أمكن فهم لفظه مجردا، فلفظ الصلاة والزكاة ـ مثلا ـ من الألفاظ التي لا يشكل على العربي فهم معاني ألفظها، وإنما يشكل عليه فهم مراد الشارع منها، فهو وإن فهم أن الصلاة بمعنى الدعاء، والزكاة بمعنى النماء والتطهير، فهو لا يدري المراد بهما في اصطلاح الشريعة، والعربي يفهم أيضا بسليقته العربية المراد بالجنة والنار والصراط المنصوب على متن جهنم والميزان، لكنه لا يدرك حقائق تلك الألفاظ، وهذا القسم يمكن أن يقسم باعتبارات عديدة، أهمها؛ أنه ينقسم باعتبار أن المكلف يحتاج فهمه حتى يمتثل ما كلف به أو لا يحتاج، إلى نوعين:

الأول: نوع يتعلق بما لزم المكلف من تكاليف الشريعة وواجباتها كالحلال والحرام، فالمكلف يحتاج إلى فهم مراد الشارع فيها حتى يمكنه أن يمتثل ما أمر به نحو ما سبق من معنى الصلاة والزكاة، ومثل هذا النوع قد بينه النبي e كله أتم بيان وأبلغه، وهو مقتضى كونه رسولا؛ لأن من لازم الرسالة البيان والبلاغ التام، ولهذا يقول تعالى ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) ويقول تعالى ((وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)) وهذا القنوع لا يختلف أهل الإسلام في أن الرسول eبلغة أتم وأكمل بلاغ، لكن أود هنا التنبيه على كيفية التفسير النبوي لها، لأنه ربما وقع الظن بأن البيان لا بد أن يكون لفظيا، والصحيح أن سنة النبي e بمفهومها الشامل لأقواله وأفعاله وتقريراته كلها من جملة ما يحصل به بيان القرآن الكريم، فمثلا مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام مما يندرج ضمن البيان اللفظي ما رواه مسلم وغيره عن أنس بن مالك أن النبي e قال لما قرأ سورة الكوثر، قال: (أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك) هذا مثال على التفسير النبوي اللفظي، ومن أمثلة التفسير العملي أو الفعلي ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في بيان المراد بالصلاة والحج وغيرهما، إذ نجد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة أمر بالصلاة والحج، وقد ثبت عن النبي e فيما رواه البخاري وغيره عن مالك أنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأصحاب السنن عن جابر ـ في الحج ـ قال: (خذوا عني مناسككم)، فكل ما ثبت عن النبي u في صفة الصلاة والحج قولا وفعلا هو من جملة التفسير والبيان لتلك الآيات الآمرة بالصلاة والحج، وهذا النوع من التفسير أعني به التفسير العملي باب واسع، وفي ظني أنه لم يلق العناية به وقد كنت أرجو أن يبحث في رسالة علمية كما عزم على ذلك أخي الشيخ إبراهيم الحميضي، لكن حال دون ذلك بعض الأمور، والحمد لله على كل حال.

الثاني: نوع لا يحتاج المكلف فهمه حتى يمتثل ما أمر به، وأمثلة هذا النوع كثيرة من ذلك: كثير من الأمور الغيبية التي ذكرت في القرآن، مثل بعض ما يقع في الآخرة كصفة الصراط والميزان، ومثل بعض الحوادث والوقائع التي أشار إليها القرآن الكريم، كأسماء أصحاب الكهف وعددهم واسم كلبهم، ومما يندرج في هذا النوع بعض الحقائق العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم، فإن علم المكلف بها وإن كان يزيد في إيمانه ويقينه بأن القرآن من عند الله تعالى، لكنه مما لا يلزم المكلف فهمه على هذا المعنى الخاص، ولذا لم ينقل عن النبي e تفسيره بل ترك لفهم واستنباط أهل العلم الراسخين فيه، وهذا من جملة الأوجه التي جعلت القرآن الكريم آية معجزة إلى قيام الساعة، وأحسب أننا إذا تتبعنا كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتبه ومؤلفاته لم يشق علينا أن نراه يقرر أن النبي e سكت عن بيان بعض هذه الغيبيات.

وبعد، فأرجو أن يكون ما ذكرته هنا مما يساعد على تصور المسألة ويلقي عليها مزيدا من الضوء، والله أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير