قال زيد رضي الله عنه: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال (صحيح البخاري برقم 4986).
قال ابن حجر: وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف على عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (الفتح 9/ 15).
وذكر قريباً من ذلك أبو شامة والزركشي رحمهم الله تعالى (المرشد الوجيز لأبي شامة صـ57 , والبرهان للزركشي 1/ 234).
وتميز هذا الجمع بمنتهى الدقة والإتقان , وإهماله لما نسخ من الآيات, واشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة دون سواه , وظفر بإجماع الأمة عليه , وتواتر ما فيه , ولم يكن منه إلا نسخة واحدة حفظت عند إمام المسلمين أبي بكر-رضي الله عنه- باتفاق العلماء (البرهان للزركشي 1/ 297 , ودراسات في علوم القرن لفهد الرومي صـ82) , وسمي بالـ"مصحف" باتفاق الصحابة (رواه ابن أشتة في (المصاحف) من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب , ذكره السيوطي في الإتقان1/ 89).
وكان الغرض من هذا الجمع تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف واحد حتى لايضيع منه شيء , دون أن يحمل الناس عليه لعدم ظهور الخلاف في قراءته (أصولٌ في التفسير , لمحمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله ,صـ33).
* الجمع الثالث: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:ـ
تاريخه: في أوائل السنة الخامسة والعشرين من الهجرة.
وسببه: اختلاف الناس في القراءة بحسب ما وصلهم من القرآن , إمّا من الصحابة أو الصحف , فخيفت الفتنة فأمر عثمان رضي الله عنه أن يجمع الناس على مصحف واحد , لئلا يختلف الناس فيتنازعوا في كتاب الله ويتفرقوا (قاله ابن حجر في الفتح 9/ 17) , ومنه ما رواه البخاري (الفتح 9/ 17) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق , فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة , فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك , فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.
وكان هذا العمل بمشورة من الصحابة واتفاق منهم , قال علي رضي الله عنه: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف , فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منّا جميعاً , قال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك , وهذا يكاد أن يكون كفراً , قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد , فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف , قلنا: فنعم ما رأيت , قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل (المصاحف لابن أبي داود صـ30 , وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 9/ 18).
واختار عثمان رضي الله عنه لهذا الجمع لجنة من ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص, وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وواحد من الأنصار هو زيد بن ثابت رضي الله عنه , وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم (صحيح البخاري 6/ 99) وهذا فيما يتعلق بالرسم الكتابة.
فنسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في أربعة أو خمسة أو سبعة مصاحف , واحد منها بقي عند عثمان وأرسل البقيّة إلى مكة والشام والبصرة والكوفة , وأرسل مع كل مصحف منها حافظ يقرئ الناس بها (مناهل العرفان 1/ 396 - 397) , وأمر بالإقراء بما فيها وما يوافقها ومنع ما عداها (البرهان 1/ 235 , الإتقان 1/ 60) , وأمر بإحراق ما كان من صحائف مفرقة عند بعض الصحابة رضي الله عنهم (صحيح البخاري برقم 4987 , والفتح 9/ 21).
وتميّز جمع عثمان رضي الله عنه باشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة , وإهمال ما نسخت تلاوته (قال البغوي في (شرح السنّة) 4/ 525 - 526: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه , وأذهب ما سوى ذلك قطعاً لمادة الخلاف , فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعدوا في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم. ا.هـ ونقلها عنه ابن حجر في الفتح8/ 646).
وكان مرتب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن , واشتمل على ما لم ينسخ من الأحرف السبعة والتي تفرعت عنها القراءات المتواترة المعروفة.
وكتبت المصاحف بطريقة تجمع وجوه القراءات المختلفة , وذلك بعدم إعجامها وشكلها , وجُرِّدت هذه المصاحف من كل ما ليس قرآناً , كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة من شرح لمعنى أو بيان لمنسوخ أو دعاء أو نحو ذلك (مناهل العرفان 1/ 260 - 261).
وأجمعت الأمّة على جمع عثمان رضي الله عنه , وهو من سنّة الخلفاء الراشدين وقد دلّ الحديث على أن لهم سنّة يجب إتباعها (كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين , عضّوا عليها بالنواجذ ,. . الحديث" رواه أبو داود (4607) والترمذي (2672) وابن ماجه (44,43) وأحمد 4/ 126 - 127 والدارمي 1/ 44 وغيرهم).
* والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما هو:
1 – أن الباعث لجمع أبي بكر "خشية أن يذهب شيء من القرآن" , والباعث لجمع عثمان "منع الاختلاف في قراءته" ولم يغير رضي الله عنه حرفاً مما في مصحف أبي بكر رضي الله عنه , وأنّى له ذلك , فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قلت لعثمان {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً} قد نسختها الآية الأخرى , فلِمَ تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئاً من مكانه. (رواه البخاري 6/ 29 برقم 4530).
2 – جمع أبي بكر في مصحف واحد , وجمع عثمان بمعنى نسخه في مصاحف متعددة متحد ة الإقراء بما يوافق رسمه.
والله أعلم وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
¥