ولا يخفى على ذي لُبّ ما يحويه مفاتيح الغيب من كنوز ثمينة وعيون معرفية ثرة، توزعت شتى مجالات المعرفة والثقافة , فكان حقيقا بما قيل فيه من أنه تفسير حوى كل شيء بين دفتيه. وكان على رأس تلك المعارف والعلوم علوم اللغة بمختلف مباحثها وقضاياها ومستوياتها , ابتداءً بالمستوى الصوتي ومرورا بقضايا البنية والاشتقاق , والمباحث التركيبية المختلفة. ولما كانت المهمة الأولى لتفسير أي نص أو لحاشيته هي الكشف عن معنى ذلك النص وتوضيح ما غمُض منه , وفتْح ما استُغلِق على أفهام متلقيه؛ نقول لما كانت تلك هي المهمة الأولى للتفاسير، فقد كان للدلالة بقضاياها المتعددة وإشكالاتها المتنوعة منزلتها , وخصوصيتها في (مفاتيح الغيب).
وكان من أهم تلك القضايا الدلالية وأبرزها في (مفاتيح الغيب) قضية (تعدد المعنى)؛ إذ ظهرت بكثرة في تفسير الإمام الرازي للعديد من الآيات القرآنية وتحليله لها , وكان لهذا الظهور الفِجّ والجلاء البين دوره في جذبي , واستنفار عزمي لأن أتتبع تلك الظاهرة بالدرس والتحليل , في محاولة للكشف عن مظاهرها المختلفة وأثرها في تفسير النص القرآني، والسَّبْح في فضاءات معناه الرحيبة.
وما كان منى ـــ لحبِّّ في القلب كبير لكتاب الله الكريم ـــ إلا الاستجابةُ لهذا الاستنفار , والاستسلامُ لذلك الجذب , فكان هذا البحث الذي وفقنى الله إليه:
(تعدد المعنى في النص القرآني , دراسة دلالية في تفسير مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي).
الدراسات السابقة:
وعلى الرغم من أهمية ظاهرة تعدد المعني وجلائها في (مفاتيح الغيب) خاصة، وغيره من تفاسير القرآن عامة؛ فإنها لم تأخذ كِفْلها من البحث والدرس المستقل، اللهم إلا دراسة وحيدةً جاءت تحت عنوان (ثراء المعنى في القرآن الكريم) للباحث التركي / محمد خليل جيجك , الأستاذ المساعد بكلية الإلهيات بجامعة يوزنجويل بتركيا , وتلك الدراسة على الرغم من إخلاصها للظاهرة، فإنها جاءت غير عميقة لغويا , وتعتمد في جانب كبير منها على عاطفة المؤلف الجياشة تجاه القرآن الكريم أكثر من اعتمادها على المعطيات اللغوية , والحقائق العلمية.
هذا وقد حمل عمل علمي آخر عنوان بحثنا ذاته، وهو (تعدد المعنى في القرآن .. دراسة دلالية) وهو رسالة دكتوراه للباحث / عبد الرحمن أمين رواش، حصل عليها عام 1979 بكلية دار العلوم، وعلى الرغم من أن عنوان الدراسة هو هو عنوان بحثنا؛ فإنها بعيدة كل البعد عن ظاهرة تعدد المعنى، ولم تمسها من قريب أو بعيد، وإنما اهتمت بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم، من خلال مؤلفات ذلك الفن، ومن ثَمَّ فليس بينها وبين بحثنا مشابهة، إلا في بعض ألفاظ العنوان.
خطة البحث:
وقد توزعت الدراسة على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة، بيانها كالتالي:
أما المقدمة فقد عرضت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره والدراسات السابقة , وبيانا لخطة البحث.
وأما التمهيد فقد انتظم مبحثين:
أولهما: تحرير المصطلح، وعالجت فيه اضطراب المصطلحات وتداخلها في محاولتها الدلالة على ظاهرة (تعدد المعنى)، وبيان علاقة كل منها بالظاهرة ومدى صدق إطلاقه عليها.
وثانيهما: تأصيل الظاهرة، وعالجت فيه تأصيل ظاهرة (تعدد المعنى) من خلال مسارين اثنين، كان أولهما تأصيل الظاهرة في مقولات عدد من القدماء والمحدثين وتطبيقاتهم على بعض النصوص، وكان ثانيهما تأصيلاً لها من خلال عقد مقارنة بين تفسير الرازي باعتباره منتهجا منهج التفسير بالرأي، وتفسير الدر المنثور للإمام السيوطي باعتباره معتمدا على منهج التفسير بالمأثور، وهدفت تلك المقارنة إلى إثبات أن تعدد المعنى قائم في المنهجين على السواء، ولم يكن أحدهما يبتدع القول به من دون المنهج الآخر.
ـ[منصور مهران]ــــــــ[01 Mar 2006, 02:05 ص]ـ
يحتوي تفسير الرازي موضوعاتٍ نفيسة متناثرة في مجلداته الضخام، ولو أن أحد أساتذة التفسير اختار من طلاب الدراسات العليا مجموعة من النابهين ذوي الجَلد ووجههم إلى استخراج هذه الموضوعات وتحقيق نصوصها - لكل طالب موضوع واحد - لأثمر المشروع ثمرة تفوق التلخيص، لأن تلخيص هذا التفسير ليس من السهولة بحيث يستطيعه جماعة من الباحثين مهما نشطوا، والسبب أن كل باحث يرى الأمر حسب اتساع أفقه العلمي، فما يراه هذا ضروريا يراه غيره ثانويا، فلا يأتي العمل متسقا في المنهج والاختيار، وهذا أمر مُشاهَد في الموسوعات التي تولى تهذيبها أو تحقيقها جماعة من العلماء فما بالك بالطلاب؟ أما فكرة تقسيم الكتاب إلى موضوعات فإنها تعطي الكتاب قيمة كبيرة حيث تجتمع المادة المتفرقة المسائل المتباعدة المباحث في مكان واحد مما يمكن القارئ من الإلمام بها والإحاطة بأركانها من أيسر طريق، ويضفي عليها التحقيق قيمة علمية أخرى بالتنبيه على الخلل وبالاستدراك على مواطن القصور وبتخريج الشواهد والنصوص ونحو ذلك، وبعد، فهذه فكرة من الأفكار ليتبادل الناس النظر فيها لعل الله يهيء لها من يعيد صياغتها بوجه أجمل وأفضل فتؤتي نفعها ولو بعد حين، وبالله التوفيق.
¥