تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(والمقصود أن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصر بها، ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه، وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط، قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه.

ويوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستنبطه، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين، ومن هذا قول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه.

ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد.

وأنت إذا تأملت قوله تعالى: " إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون " وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهر، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل، ووجدت الآية أخت قوله: " وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون " ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، ووجدتها دالة أيضاً بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به، كما فهمه البخاري من الآية فقال في صحيحه في باب: " قل فاتوا بالتوراة فاتلوها ". "لا يمسه" لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" وتجد تحته أيضاً أنه لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة، وأن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه مصروفة عنه، فتأمل هذا النسب القريب وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه.

فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه.

وتأمل قوله تعالى لنبيه: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم العذاب وهم أعداؤه، فكيف وجود سره والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص؟ أفليس دفعه العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى؟.

وتأمل قوله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ". كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره، وأن نسبه الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر فالكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك، وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتق من هذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرةً" وقوله: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" بل محو التوحيد الذي هو توحيد الكبائر أعظم من محو اجتناب الكبائر للصغائر.

وتأمل قوله تعالى:" وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون " كيف: نبههم بالسفر الحسي على السفر إليه؟ وجمع له بين السفرين كما جمع لهم الزادين في قوله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم؟ وكما جمع بين اللباسين في قوله: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " فذكر سبحانه زينة ظواهرهم وبواطنهم ونبههم بالحسي على المعنوي، وفهم هذا القدر زائد على فهم مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.) انتهى.

وهنا سؤال: ما قولكم في الاستناط الذي استنبطه ابن القيم من آية النساء: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) وهل هو صحيح على اطلاقه، خاصة أن ابن القيم أكد ذلك المعنى المستنبط بعدة قرائن؟!

أرجو من الإخوة إبداء الرأي حول هذا الاستنباط؛ فقد أشكل عليّ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير