تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن ذلك قوله تعالى: {بل عجبتُ ويسخرون}، في قراءة من قرأ بضم التاء0 أي: عجب ربنا0 قال الزمخشري:" فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى؛ وإنما هو روْعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء0 والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يجرَّد العجب لمجرَّد الاستعظام0 والثاني: أن يتخيَّل، فيفرض ".

وقال الرازي:" معناه: أنه صدر من الله تعالى فعل، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجب في قلوبهم0 وبهذا التأويل يضاف المكر، والاستهزاء إلى الله تعالى "0

وقال أبو حيَّان:" الظاهر أن ضمير المتكلم لله تعالى0 والعجب لا يجوز على الله تعالى؛ لأته روعة تعتري المتعجب من الشيء0 وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى، وتؤوِّل على أنه صفة فعل، يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم، أو تحقير، حتى يصير الناس متعجبين منه "0

ومن ذلك قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} 0 أي: ما أجرأهم على عذاب النار! فهذا تعجب من شدة صبرهم على النار0 ومثله ما روي عن الكسائي من أنه قال: " قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إليَّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حق صاحبه، فقال له: ما أصبرك على الله0 أي: ما أجرأك على عذاب الله0 وأصبر بمعنى: أجرأ لغة يمانية0

ومع هذا فقد ذهب أبو حيان في تأويل الآية الكريمة إلى القول:" إذا قلنا: إن الكلام هو تعجب، فالتعجب هو استعظام الشيء، وخفاء حصول السبب0 وهذا مستحيل في حق الله تعالى؛ فهو راجع لمن يصح ذلك منه0 أي: هم ممن يقول فيهم من رآهم: ما أصبرهم على النار! "0

ومن ذلك قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} 0 قال الزمخشري:" تعجَّبَ من إفراطه في كفران نعمة الله "0 وقال أبو حيان:" الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره0 ثم قال: والتعجب بالنسبة للمخلوقين؛ إذ هو مستحيل في حق الله تعالى0 أي: هم ممن يقال فيه: ما أكفره! "0

ومن ذلك قوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر} 0 قال الزجاج:" هو تعجب من قوة إبصارهم، وشدة سماعهم يوم القيامة، بعدما كانوا في الدنيا صمًّا لا يسمعون، وعميًا لا يبصرون "0

وخالفه في ذلك المبرد، والزمخشري0 أما المبرد فقال:" لا يقال لله عز وجل متعجب؛ ولكنه خرج على كلام العباد0 أي: هؤلاء ممن يجب أن يقال فيهم: ما أسمعهم، وأبصرهم في ذلك الوقت "0 وأما الزمخشري فقال:" لا يوصف الله تعالى بالتعجب؛ وإنما المراد أن أسماعهم، وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صمًّا، وعميًا في الدنيا "0

وليت شعري ما الذي يمكن أن يقولوا في تأويل قوله تعالى: {أبصر به وأسمع}، وقد أجمعوا على أن الضمير في (به) يعود على الله تعالى "؟

أيمكن أن يقال فيه: إنه خرج على كلام العباد؟ أم أنه ممن يصح أن يقال فيه: كذا وكذا؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا! وقد قال الفخر الرازي في تفسيره:" هي كلمة تذكر في التعجب0 أي: ما أبصره، وما أسمعه "0

ثم ما الذي يمكن أن يقال في قوله تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس:36] 0 وفي قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة:28]؟ أليس هذا تعجب من الله تعالى، وفي حقه سبحانه، ومثله كثير في كتاب الله تعالى، وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم؟

وأما قوله تعالى: {بل عجبتُ ويسخرون} فكان شريح يقرأ: (عجبتّ) بالفتح، ويقول:" إن الله لا يعجب من شيء؛ وإنما يعجب من لا يعلم "0 فقال إبراهيم النخعي:" إن شريحًا شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم "0 يريد: عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- وكان يقرأ بضم التاء0

وكان الفراء يقول:" العجب، وإن أسند إلى الله تعالى، فليس معناه من الله كمعناه من العباد "0 وكان يجيز في (عجبت) قراءة الرفع، و قراءة النصب، وكان يقول:" والرفع أحب إليَّ؛ لأنها قراءة علي، وابن مسعود، وعبد الله بن عباس "0

أما الطبري فقد حكى قراءة الرفع عن عامة قراء الكوفة، وقراءة النصب عن عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض قراء الكوفة، وكان يقول فيهما:" إنهما قراءتان مشهورتان، فبأيهما قرأ القارىء فمصيب "0

نخلص من ذلك كله إلى أن إسناد التعجب إلى الله تعالى جائز، وأن وصفه سبحانه بالمتعجب ثابت في القرآن، والسنة، ولكن على أن يحمل على مجرد الاستعظام، وأن معناه من الله تعالى ليس كمعناه من العباد؛ كما نصَّ على ذلك الفراء0

وخلاصة القول في معنى التعجب ما ذكره الفخر الرازي بعد قوله:" قالوا: التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه "، قال:" ثم يجوز استعمال التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب0 أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول"0

فالتعجب- على هذا- ليس كله مما خفي سببه0 بل أكثره مما علم سببه، بدليل أن سبب العظم لا يخفى إلا على الكافر0 أما المؤمن فسبب ذلك عنده معروف0 فإن تعجَّب- في كثير من الأمور- فإنما يتعجَّب لمجرد الاستعظام0 ومن هنا قيل: التعجُّب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر؛ لأنه دليل على الجهل0 ولا يجهل قدرة الله تعالى إلا الكافر0

ولهذا حمل تعجب سارة امرأة إبراهيم عليه السلام على أنه تعجب بحسب العرف والعادة، التي أجراها الله تعالى في عباده، لا بحسب قدرته سبحانه على الخلق والإبداع.

وإنما أنكرت الملائكة عليها تعجبها في قولهم: {أتعجبين من أمر الله}؛ لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات0 فكان عليها أن تتوقَّر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله، وتمجده مكان التعجب0 وإلى ذلك أشار الملائكة صلوات الله تعالى عليهم بقولهم: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} 0 وهو كلام مستأنف لتعليل إنكار تعجبها0 كأنه قيل لها: إياك والتعجب!

فعلى مجرد الاستعظام ينبغي أن يحمل التعجب، إذا صدر من العبد المؤمن، وعليه ينبغي أن يحمل إذا صدر من الله تعالى؛ لأن تأويله على الوجه الذي ذكره المفسرون- كما قدمنا- يصرف الكلام عن وجهه الصحيح، ويخرجه عن حدِّ الفصاحة، والبلاغة التي يمتاز بها أسلوب القرآن الكريم0 والحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان!!

محمد إسماعيل عتوك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير