والوجه الثالث: أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف، وهذا كثير، نحو قوله - عزوجل -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] نسختها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه) (10) ا هـ.
وقال - رحمه الله -: (وأمَّا قوله في الحديث: {لأقضين بينكما بكتاب الله} (11) فلأهل العلم في ذلك قولان:
أحدهما: أن الرجم في كتاب الله على مذهب مَن قال: إن من القرآن ما نسخ خطه وثبت حكمه، وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه، وثبت خطه، وهذا في القياس مثله ... ومَن ذهب هذا المذهب احتج بقول عمر ابن الخطاب: الرجم في كتاب الله، حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصنّ (12). وقوله: لولا أن يقال: إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} فإنا قد قرأناها (13)) (14).
ذكر ابن عبدالبر - رحمه الله - في الكلام السابق أوجه النسخ في القرآن، وذكر أمثلة لكل وجه من هذه الأوجه، وأكثرُ ما ذكر واضح لايحتاج إلى إيضاح؛ ولذلك سوف أكتفي بالتنبيه على بعض الأمور:
الأمر الأول: الوجه الأول الذي ذكره ابن عبدالبر - وهو ما نسخ حظه وحكمه وحفظه فنسى، ويطلق عليه بعض العلماء نسخَ التلاوة والحكم معاً - هذا الوجه أنكره قوم كما حكى ذلك عنهم القاضي أبو بكر (15) في كتابه الانتصار كما نقله عنه الزركشي في البرهان بقوله: (وحكى القاضي أبو بكر في {الانتصار} عن قوم إنكار هذا القسم؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها) (16).
(وقد أُجيبت على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء، وثبوت نزول القرآن شيء آخر، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد، أمَّا ثبوت نزول القرآن فهو الذي يشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر، والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفى فيه أخبار الآحاد) (17).
الأمر الثاني: ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - من أمثلة على الوجه الأول، وذكر أنها مِمَّا نسخ خطه وحكمه وحفظه فنسي، في بعضها نظر، وذلك مثل نسخ {لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب}، ونسخ {بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا} وما شابه ذلك من أمثلة حكمها ثابت لم يتغير ولم يرفع.
وكذلك ما ذكره من نسخ حكم آية الرجم في سورة الأحزاب فيه نظر.
فلعل الصحيح في مثل هذه الأمثلة أن تكون مِمَّا نسخ تلاوته ولفظه وبقي حكمه لأن هذه الألفاظ جاءت بصورة الخبر، ومعناها صحيح وحكمها باق، فكيف تكون مِمَّا نسخ حكمه؟!.
الأمر الثالث: أنكر بعض أهل العلم الوجه الثاني - وهو نسخ الخط والتلاوة وبقاء الحكم - وقالوا: إن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد (18).
وممن أنكر وشكك في وقوعه الدكتور مصطفى زيد (19) في كتابه النسخ في القرآن حيث قال: (ولابد من وقفه هنا، عند نوع ثالث للنسخ ذكره الأصوليون، واعتمدوا فيه على آثار لاتنهض دليلاً له، مع أن الآيتين اللتين تتحدثان عن النسخ في القرآن الكريم لاتسمحان بوجوده إلاَّ على تكلف، ومع أنه يخالف المعقول والمنطق، ومع أن مدلول النسخ وشروطه لاتتوافر فيه ... وهذا النوع هو منسوخ التلاوة باقي الحكم كما يعبر عنه الأصوليون) (20).
ثُمَّ ذكر الأمثلة التي تدل على وقوع هذا النوع - وهي آيتا الرجم، وتحريم الرضعات الخمس - وشكك في ثبوتها، واستبعد صدور الآثار فيهما عن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - ثُمَّ قال: (ومن ثَمَّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرد فرض، لم يتحقق في واقعة واحدة، ولهذا نرفضه، ونرى أنه غير معقول ولا مقبول، والله عزوجل أعلم) (21) ا هـ.
وقد رد المحققون من أهل العلم كلامه هذا من وجوه كثيرة، ومن هذه الوجوه ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - بقوله: (وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه، وثبت خطه، وهذا في القياس مثله) (22) ا هـ.
¥