تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما يحتج به هو وغيره من كون الأخبار فيه أخبار آحاد لايُعول عليه؛ لأن منسوخ التلاوة لم يبق قرآناً، فنقل كونه قرآناً بأخبار الآحاد لايجعله لم يكن قرآناً في السابق؛ لأنه الآن زالت قرآنيته فلايحتاج إلى نقله متواتراً؛ لعدم قرآنيته، ولكنه يكتفى فيه بالنقل الصحيح لثبوت القرآنية السابقة للنسخ، وأخبار الآحاد الصحيحة يقبل بها كل شيء عند أهل السنة والجماعة، كما صرح بذلك الإمام البخاري في كتاب خبر الآحاد من صحيحه (23).

(وبما تقدم نعلم أن نسخ التلاوة وبقاء الحكم واقعٌ ثابتٌ لا مطعن فيه، وأن مَن نفاه متأثر بالمدرسة العقليَّة، وهي متأثرة بالمعتزلة) (24).

وهنا سؤال أورده الزركشي في برهانه، وهو أن يقال: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاّ تثبت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها (25)؟.

والجواب على هذا السؤال من وجوه:

الأول: (أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجرداً من الحكمة، ولا خالياً من الفائدة ... بل فيه فائدة أي فائدة، وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه؛ وذلك سورٌ محكم، وسياج منيع، يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص؛ لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع، ثُمَّ حاول أحد تحريفه، سرعان ما يعرف، ويقابل بالإنكار، وبذلك يبقى الأصل سليماً من التغيير والتبديل، مصداقاً لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ , لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

والخلاصة: أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام، نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط، رجوعاً بالقرآن إلى سيرته من الإجمال، وطرداً لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال، تيسيراً لحفظه وضماناً لصونه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216، 232، آل عمران: 66، النور: 19]) (26).

والثاني: أن في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم إظهاراً لمقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي (27).

والثالث: (أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ، فإن عدم العلم بالشيء لايصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء، وإلاَّ فمتى صار الجهل طريقاً من طرق العلم؟ ثُمَّ إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم، أن يصدر لحكمة أو لفائدة، نؤمن بها وإن كنا لانعلمها على التعيين، وكم في الإسلام من أمور تعبدية، استأثر الله بعلم حكمتها، أو اطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]) (28).

والوجه الرابع: وهو خاص بآية الرجم، فالسر في نسخ تلاوتها مع بقاء حكمها أنها كانت تتلى أولاً لتقرير حكمها، ردعاً لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات؛ حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس، نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة، وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة، حيث سلكها مسلك ما لايليق أن يذكر فضلاً عن أن يفعل، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لايقع؛ كأنه قال: نزهوا الأسماع عن سماعها، والألسنة عن ذكرها، فضلاً عن الفرار منها ومن التلوث برجسها، كتب الله لنا الحفظ والتوفيق؛ إنه على كل شيء قدير (29).

الأمر الرابع: ذكر ابن عبدالبر أن ما نسخ حكمه وبقي خطه - وهو الوجه الثالث من وجوه النسخ - كثير، حيث قال: (والوجه الثالث: أن ينسخ حكمه ويبقى خطه في المصحف، وهذا كثير) ا هـ.

وهو عند التحقيق قليل جداً، وإن أكثر الناس من تعداد الآيات فيه، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان، ثُمَّ حرّر الآيات التي ثبت فيها النسخ فأوصلها إلى عشرين آية (30)، وقد أورد كلامه الدهلوي (31) في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير وتعقبه فيه ثُمَّ قال: (وبما حررته لايتعين النسخ إلاَّ في خمس آيات) (32).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير