أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ" فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} قال: والعدة كما هي واجبة (40).
قال ابن كثير - رحمه الله -: (وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية، وردّه آخرون منهم الشيخ أبو عمر ابن عبدالبر) (41) ا هـ.
ولعل الراجح - والله أعلم - من هذين القولين هو القول بعدم النسخ، ويؤيد ذلك ما يلي:
أولاً: ثبوت هذا القول عن مجاهد، وهو مَن هو في التفسير، وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
ثانياً: مساعدة اللفظ له، كما ذكر ذلك ابن كثير - رحمه الله -، ومن ذلك أنه قال في آية الحول: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ)} وقال في آية الأربعة أشهر وعشرة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)} فلابد من بلوغ الأجل حتى ينتفي الحرج، وهذا واضح لمن تأمله.
ثالثاً: لما قرّره ابن عبدالبر نفسه من أنه لاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه (42)، ومن أنه لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له، ولايحتمل التأويل (43)، ومن أنه لايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع (44).
وهذه القواعد الصحيحة التي قررها لاتنطبق على آية البقرة التي ادّعى الإجماع على أنها منسوخة، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ! جًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ" ... } الآية.
قال الشيخ السعدي - رحمه الله - بعد أن ذكر قول أكثر المفسرين من أن الآية السابقة منسوخة قال: (وهذا القول لا دليل عليه، ومن تأمل الآيتين، اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشراً على وجه التحتيم على المرأة، وأمَّا في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت، أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولاً كاملاً، جبراً لخاطرها، وبراً بميتهم) (45) ا هـ.
وبهذا نعلم أن ما قاله ابن عبدالبر من أن هذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه فيه نظر، ولعله لم يطلع على قول مجاهد.
الأمر السادس: خلاصة ما تقدم في هذا المبحث أن جمهور العلماء ذكروا أن النسخ في القرآن ثلاثة أضرب - أو أوجه -:
أحدها: نسخ الحكم دون التلاوة - نسخ الحكم مع بقاء الرسم والخط - ويتفق العلماء على وقوع هذا الضرب من النسخ، ووجوده في القرآن الكريم - ولايُعتبر قول من شذّ (46) - ويمثلون له بعدة أمثلة، منها نسخ آية مصابرة الواحد للعشرة في القتال، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسخ وجوب قيام الليل في سورة المزمل، وغير ذلك.
والتحقيق: أن أمثلة هذا الضرب قليلة قد لاتتجاوز أصابع اليدين كما قرر ذلك العلماء المحققون.
الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم، وعلى وقوعه وجوازه جمهور العلماء، وأنكره بعضهم ممن يُقدم المعقول على المنقول، ولايحتج بأخبار الآحاد، والصحيح جوازه ووقوعه.
ويُمثل له بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به عند أهل السنة (47)، وكذلك آية التحريم بالرضعات الخمس، فهي منسوخة التلاوة باقية الحكم.
والضرب الثالث: نسخ التلاوة والحكم معاً، ويمثلون له بنسخ تحريم عشر رضعات كما في حديث عائشة، كما يستدلون له أيضاً بأدلة أخرى كما جاء أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، وغير ذلك من الأمثلة التي ذكر كثيراً منها ابن عبدالبر - رحمه الله -، والجمهور على صحة وقوع هذا الضرب وجوازه للأخبار الصحيحة الواردة في ذلك - والله تعالى أعلم (48) -.
الحواشي السفلية
(1) أخرجه مالك في كتاب صلاة الجماعة، باب: الصلاة الوسطى 1/ 132، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [629].
¥