وحجة الجمهور: أن الجميع وحي من الله تعالى، فالناسخ والمنسوخ من عند الله، والله هو الناسخ حقيقة، لكنه أظهر النسخ على لسان رسوله r ، وقد قال الله تعالى: {وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، وبأنه لايوجد مانع عقلي من جوازه، حيث إنه لايلزم من فرض وجوده محال، ولايوجد مانع شرعي؛ لأنه قد وقع في الشرع، فهو دليل الجواز (4).
ومثّلوا لذلك بآية الوصية، فإن الناسخ لها هو قوله r : { لا وصية لوارث} وأيضاً آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة كما قالوا (5).
وأمَّا حجة الإمام الشافعي ومن وافقه فقد بينها الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة، حيث قال: (إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مِمَّا أراد بخلْقِهم وبهم، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأخرى نسخها: رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادةً فيما ابتدأهم به من نعمه، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته، والنجاةَ من عذابه، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه.
وأبان الله لهم أنه إنَّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنة لا ناسخة للكتاب، وإنَّما هي تبعٌ للكتاب، بمثل ما نزل نصاً، ومفسرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً.
قال الله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ* قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15]، أخبر الله أنه فرض على نبيّه اتباع ما يُوحى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه.
وفي قوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي} بيان ما وصفت من أنه لاينسخ كتابَ الله إلاَّ كتابُه ... وفي كتاب الله دلالة عليه، قال الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخيرَ إنزاله لايكون إلاَّ بقرآن مثله، وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَان ءَايَةٍ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]) (6).
وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن منهج السلف في الحكم هو النظر في الكتاب أولاً، ثُمَّ في السنة ثانياً، وبين أن هذا المنهج إنَّما يتناسب مع القول بمنع نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن، قال - رحمه الله -: (وهم إنَّما كانوا يقضون بالكتاب أولاً؛ لأن السنة لاتنسخ الكتاب فلايكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه فلايقدم غير القرآن عليه، ثُمَّ إذا لم يجد ذلك طَلَبَه في السنة، ولايكون في السنة شيء منسوخ إلاَّ والسنة نسخته) (7) ا هـ.
والذي أرى أنه من المفيد لكاتب هذا البحث والمطلع عليه هو الإحالة على ما كتبه الزرقاني - رحمه الله - في مناهل العرفان حول هذه المسألة، فقد أجاد وأفاد، وخلص إلى أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلاً ولا شرعاً، إلاَّ أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع (8).
تتمة حول آية الوصية:
من الأمثلة التي يذكرها القائلون بنسخ القرآن بالسنة: نسخ آية الوصية بحديث: (لا وصية لوارث)؛ فرأيت أنه من المفيد تحقيق القول في هذه الآية، وهل هي منسوخة أو لا؟
وحاصل ما ذكره العلماء من الأقوال في هذه الآية ثلاثة أقوال:
الأول: أن الوصية للوالدين والأقربين على الندب، لا على الحتم والوجوب، فالآية كلها منسوخة، والذي نسخها هو آيات المواريث، وهذا القول منسوب لابن عمر وابن عباس، ونحو هذا قول مالك - رحمه الله - كما قال القرطبي (9)، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي.
¥