وهذا القول هو الذي رجحه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه الناسخ والمنسوخ؛ حيث ذكر الآثار التي تدل على أن آية الوصية منسوخة بآيات الفرائض ثُمَّ قال: (قال أبو عبيد: فإلى هذا القول صارت السنة القائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه انتهى قول العلماء وإجماعهم في قديم الدهر وحديثه أن الوصية للوارث منسوخة لاتجوز وكذلك أجمعوا على أنها جائزة للأقربين إذا لم يكونوا من أهل الميراث، ثُمَّ اختلفوا في الأجنبيين، فقالت طائفة من السلف: لاتجوز لهم الوصية، وخصُّوا بها الأقارب).
ثُمَّ ذكر آثاراً تدل على هذا القول، ثُمَّ ذكر القول الآخر وهو أن الوصية جائزة لكل موصى له من الأباعد والأقارب إلاَّ الوارث، ثُمَّ قال: (قال أبو عبيد: وعلى هذا القول اجتمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام ومصر وغيرهم، منهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث وجميع أهل الآثار والرأي، وهو القول المعمول به عندنا أن الوصية جائزة للناس كلهم ما خلا الورثة خاصة، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا وصية لوارث}) (19) ا هـ.
ومعلومٌ أن مراد الإمام أبي عبيد القاسم بن سلاّم بالنسخ هنا هو مراد السلف المتقدمين الذين يطلقونه على التخصيص وغيره من أنواع البيان.
ثانياً: نسخ السنة بالقرآن:
في هذه المسألة قولان:
الأول: القول بمنع نسخ السنة بالقرآن، وهو ما ذهب إليه الشافعي وقرّره في الرسالة (20).
والقول الثاني: وإليه ذهب جمهور الأصولين - أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وهو اختيار محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله (21) -.
وأدلة كل فريق في هذه المسألة هي نفسها أدلتهم في المسألة السابقة - مع اختلاف يسير (22) -.
وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها:
1 - التوجه إلى بيت المقدس، وهو ثابت بالسنة، وناسخه في القرآن قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
2 - تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة، وناسخه في القرآن قوله تعالى: {فَالْئنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187].
إلى غير ذلك من الأمثلة (23).
(وخلاصة القول في هاتين المسألتين: أن الخلاف في جواز نسخ القرآن بالسنة والعكس خلافٌ لايترتب عليه أثر كبير والخطب فيه يسير، وذلك إذا تقرر عند الجميع ما يأتي:
1 - تعظيم نصوص الكتاب والسنة وتقديم جانب العمل بهما مهما أمكن.
2 - أن الكتاب والسنة وحي من عند الله، وأنهما متفقان لايختلفان، متلازمان لايفترقان.
3 - أن النسخ لايكون إلاَّ بأمر من عند الله سبحانه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39].
4 - عدم التفريق في ذلك بين السنة المتواترة والآحادية) (24).
(وعلى كلٍّ فالمسائل التي يذكر أهل العلم أن السنة نسخت فيها الكتاب أو نسخ كتاب الله فيها السنة مسائل قليلة، والنظرة الفاحصة في هذه المسائل تدل على صحة ما ذهب إليه الشافعي، ويبدو أن نظرته مبنية على استقراء للنصوص التي تدخل في إطار البحث) (25).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة، وإن تضمنت نسخاً لبعض أي القرآن، لكن يقولون: إنَّما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة، ويحتجون بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ} [البقرة: 106] ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلاَّ بقرآن) (26) ا هـ.
وقال الشافعي - رحمه الله -: (فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن كان للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة) (27) ا هـ.
الحواشي السفلية:
(1) انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 266.
(2) انظر: نزهة الخاطر العاطر لعبدالقادر بدران 1/ 225، وأضواء البيان للشنقيطي 3/ 334.
(3) انظر: روضة الناضر لابن قدامة 1/ 324، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 17/ 195، 197، 19/ 202.
(4) انظر: كتاب فتح المنان في نسخ القرآن ص 234.
(5) انظر أمثلة المجيزين في مناهل العرفان للزرقاني 2/ 260 - 261، وأضواء البيان للشنقيطي 3/ 334.
(6) الرسالة للشافعي ص 106 - 108.
(7) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 19/ 202.
(8) انظر: مناهل العرفان للزرقاني 2/ 254 - 262.
(9) انظر: تفسير القرطبي 2/ 263.
(10) التمهيد 8/ 384.
(11) التمهيد 14/ 296.
(12) سبق تخريجه ص 254.
(13) الاستذكار 23/ 12، 13.
(14) انظر: تفسير الطبري 3/ 384، 385، وتفسير القرطبي 2/ 262.
(15) تفسير ابن كثير 1/ 201.
(16) الاستذكار 17/ 176.
(17) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب: الوصايا وقول النبي E : { وصية الرجل مكتوبة عنده} 3/ 1005، وأخرجه مسلم في أول كتاب الوصية رقم [1627].
(18) انظر: تفسير القرآن للعز بن عبدالسلام 1/ 186، حاشية هامش رقم 2.
(19) الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد بن سلام ص 232 - 234.
(20) انظر: الرسالة للشافعي ص 108.
(21) أضواء البيان 3/ 334.
(22) انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 262 - 263.
(23) انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 262 - 263.
(24) من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد حسين الجيزاني ص 269، 270.
(25) من كتاب مسائل في فقه الكتاب والسنة للدكتور عمر بن سليمان الأشقر ص 230، 231.
(26) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 20/ 399.
(27) الرسالة للإمام الشافعي ص 110.
¥