ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[10 Jun 2003, 07:37 م]ـ
الوقفة الرابعة:قواعد وضوابط في النسخ في القرآن:
هناك قواعد مهمة، وضوابط مفيدة تتعلق بموضوع النسخ في القرآن ذكرها ابن عبدالبر - رحمه الله - في ثنايا كتبه حاولت جمعها وتطبيقها على بعض الآيات.
ومعرفة مثل هذه القواعد والضوابط من الأمور المهمة، وخاصة في مثل هذا الموضوع الذي تعددت فيها الآراء، واختلفت فيه الأقوال، وحصل فيه لبسٌ على الكثير بسبب عدم ضبط هذا الموضوع بضوابط واضحة يتميز من خلالها صحيح الأقوال من باطلها، وقويها من ضعيفها.
وقد سبقت الإشارة إلى شيء منها من خلال ما سبق من وقفات ولكني أفردتها في هذه الوقفة لأهميتها، فإلى هذه القواعد والضوابط:
أولاً:
(الناسخ والمنسوخ إنَّما يكون في الأوامر والنواهي من الكتاب والسنة، وأمَّا الخبر عن الله عزوجل أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلايجوز النسخ فيه ألبتة بحال؛ لأن المخبر عن الشيء أنه كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل من السهو أو الكذب، وذلك لايُعزى إلى الله ولا إلى رسوله فيما يخبر به عن ربه في دينه.وأمَّا الأمر والنهي فجائز عليهما النسخ للتخفيف، ولما شاء الله من مصالح عباده، وذلك من حكمته لا إله إلاَّ هو) (1) ا هـ.
وهذه القاعدة معلومة، ومتفق عليها عند القائلين بالنسخ، وهي تعتبر شرطاً من شروط النسخ؛ فمن شروط صحة ا لنسخ أن يكون المنسوخ حكماً لا خبراً، إذ الأخبار لايدخلها النسخ كأخبار ما كان وما يكون، وأخبار الجَنَّة والنار، وما ورد من أسماء الله وصفاته (2).
وهذه مجموعة تنبيهات متعلقة بهذه القاعدة:
التنبيه الأول: لايدخل في مفهوم هذه القاعدة الأخبار التي يراد بها الإنشاء، فالخبر الذي ليس محضاً بأن كان في معنى الإنشاء، ودلّ على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية لا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ.
ومن أمثلة الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف: 47] فالمعنى هنا: ازرعوا (3)، وكذلك قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
ومن أمثلة الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] فما ذكر الله في هذه الآية يمتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانياً ينكح غير زانية، وزانية تتزوج غير الزاني، فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر، فثبت أنه أراد الحكم والنهي (4).
ومن أمثلة ما كان لفظه خبراً ومعناه الأمر، وهو منسوخ قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية [الأنفال: 65] جاء نسخه في الآية التي بعد هذه وهي قوله تعالى: {الْئنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية [الأنفال: 66].
فالقول الراجح - وهو قول الجمهور - أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية مع أن لفظها وظاهرها خبر، إلاَّ أن المراد منه الأمر، كما قرر ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله (5) -.
التنبيه الثاني: الأحكام الثابتة المتعلقة بالعقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات لا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء.
وعليه فإن النسخ إنَّما يكون في الأحكام المتعلقة بفروع العبادات والمعاملات الجزئية.
والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد، أو هي كمياتها وكيفياتها، وأمَّا أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف.
ويتصل بهذا أن الأديان الإلهية لاتناسخ بينها فيما ذُكر من الأمور التي يتناولها النسخ؛ بل هي متحدة في العقائد، وأمهات الأخلاق، وأصول العبادات والمعاملات، وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقاً لايقبل النسخ والنقض، ومن أمثلة ذلك من القرآن الكريم:
¥