وهذا خلاف السنة الثابتة في أمر رسول الله U ثابت بن قيس بن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها، ويخلي سبيلها (15)، ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه) ا هـ.
ثُمَّ ذكر أن الآيتين يُمكن الجمع بينهما بأن نجعل قوله عزوجل: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] محمولاً على رضاهما، ونجعل قوله عزوجل: {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـ: ـــًا} [النساء: 20] محمولاً على الأخذ بغير رضاها، وعلى كره منها وإضرار بها، وبهذا الجمع يصح استعمال الآيتين (16).
ثالثاً: (لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له، ولايحتمل التأويل) (17).
ويُمكن التعبير عن هذه القاعدة بعبارة مختصرة، وهي: النسخ لايثبت مع الاحتمال (18).
فلابد في النسخ من دليل يدل عليه، سواء من الآية نفسها، أو بواسطة النقل الصريح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو إجماع الأمة، أو عن طريق وقوع التعارض الحقيقي مع معرفة التاريخ، إذ إن هذا دليل على النسخ، كما أنه في الوقت نفسه من الشروط اللازمة للقول به (19).
(والحاصل أن الناسخ والمنسوخ إنَّما يعرفان بمجرد النقل الدال على ذلك، ولايعرف ذلك بدليل عقلي ولا بقياس) (20).
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: (ولايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع) (21) ا هـ.
قال الشاطبي - رحمه الله -: (الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لايكون إلاَّ بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لايكون إلاَّ بمعلوم محقق) (22) ا هـ.
ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في سياق كلامه عن خلاف العلماء في حكم الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا، حيث قال: (وقال آخرون: واجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه إذا تحاكموا إليه، وزعموا أن قوله عزوجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} [المائدة: 49] ناسخ للتخيير في الحكم بينهم في الآية التي قبل هذه.
وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وبه قال الزهري وعمر بن عبدالعزيز، والسدي، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي ...
قال أبو عمر: الصحيح في النظر عندي أن لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بما قام به الدليل الذي لا مدفع له، ولايحتمل التأويل، وليس في قوله عزوجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} [المائدة: 49] دليلٌ على أنها ناسخة لقوله عزوجل: {فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] لأنها تحتمل أن يكون معناها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت ولاتتبع أهواءهم فتكون الآيتان محكمتين مستعملتين غير متدافعتين.
فقف على هذا الأصل في نسخ القرآن بعضه ببعض؛ لأنه لايصح إلاَّ بإجماع لاتنازع فيه، أو بسنة لا مدفع لها، أو يكون التدافع في الآيتين غير ممكن فيهما استعمالهما ولا استعمال أحدهما إلاَّ بدفع الأخرى فيُعلم أنها ناسخة لها، وبالله التوفيق) (23) ا هـ.
ومن الضوابط التي يعرف بها الناسخ والمنسوخ ما ذكره - رحمه الله - بقوله: (بعمل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقف على الناسخ والمنسوخ فافهم) (24) ا هـ.
ومعنى هذا أن عمل الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وذلك عندما يكون هناك تعارض بين حكمين - مثلاً - دل عليهما دليلان من الكتاب، أو من السنة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما إلاَّ بإبطال الآخر ونسخه - فعمل الخلفاء الراشدين بأحد الحكمين مع عدم مخالفة الصحابة لهم يدل على أن الحكم الذي عملوا به ناسخ للآخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده كما في حديث العرباض بن سارية المعروف (25).
¥