ومن ذلك نسخ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدو بثباته للاثنين ولم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه بل بقي استحبابه وإن زال وجوبه. بل إذا غلب على ظن المسلمين ظفرهم بعدوهم وهو عشرة أمثالهم وجب عليهم الثبات وحرم عليهم الفرار؛ فلم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه.
ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل حكمه بالكلية بل نسخ وجوبه وبقي استحبابه والندب إليه وما علم من تنبيه وإشارته وهو أنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى؛ فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه ويتأول هذه الأولوية. ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يفعله ويتحراه ما أمكنه وفاوضته فيه فذكر لي هذا التنبيه والإشارة.
ومن ذلك نسخ الصلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس فإنها لم تبطل بالكلية بل أثبتت خمسين في الثواب والأجر خمساً في العمل والوجوب. وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيث يقول على لسان نبيه: "لا يبدل القول لدي هي خمس وهي خمسون في الأجر". فتأمل هذه الحكمة البالغة والنعمة السابغة فإنه لما اقتضت المصلحة أن تكون خمسين تكميلاً للثواب وسوقاً لهم بها إلى أعلى المنازل، واقتضت أيضاً أن تكون خمساً لعجز الأمة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين جعلها خمساً من وجه وخمسين من وجه جمعاً بين المصالح وتكميلاً لها. ولو لم نطلع من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتم الوجوه إلا على هذه الثلاثة وحدها لكفى بها دليلاً على ما رآها فسبحان من له في كل ما خلق وأمر حكمة بالغة شاهدة له بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه الله الذي لا إله إلا هو رب لعالمين.
ومن ذلك الوصية للوالدين والأقربين؛ فإنها كانت واجبة على من حضره الموت ثم نسخ الله ذلك بآية المواريث وبقيت مشروعة في حق الأقارب الذين لا يرثون. وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان للسلف والخلف وهما في مذهب أحمد؛ فعلى القول الأول بالاستحباب إذا أوصي للأجانب دونهم صحت الوصية ولا شيء للأقارب وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يبطلوا وصية الأجانب ويختصوا هم بالوصية كما للورثة أن يبطلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية ويكون الثلث في حقهم بمنزلة المال كله في حق الورثة؟ على وجهين. وهذا الثاني أقيس وأفقه ..
.
ومنه نسخ الاعتداد بأربعة أشهر وعشر على المشهور من القولين في ذلك فلم تبطل العدة الأولى جملة.
ومن ذلك حبس الزانية في البيت حتى تموت فإنه على أحد القولين لا نسخ فيه لأنه مغياً بالموت أو يجعل الله لهن سبيلاً وقد جعل الله لهن سبيلاً بالحد. وعلى القول الآخر هو منسوخ بالحد وهو عقوبة من جنس عقوبة الحبس فلم تبطل العقوبة عنها بالكلية بل نقلت من عقوبة إلى عقوبة وكانت العقوبة الأولى أصلح في وقتها لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية وزناً فأمروا بحبس الزانية أولاً ثم لما استوطنت أنفسهم على عقوبتها وخرجوا عن عوائد الجاهلية وركنوا إلى التحريم والعقوبة في وقتها نقلوا إلى ما هو أغلظ من العقوبة الأولى وهو الرجم والجلد فكانت كل عقوبة في وقتها هي المصلحة التي لا يصلحهم سواها ... )
ـ[سيف الدين]ــــــــ[15 Jan 2006, 12:40 ص]ـ
جزاك الله عنا كل خير لبحثك القيم يا ابا مجاهد ... عندي 3 أسئلة أرجو فيها الافاضة ان استطعت, ولك الشكر الجزيل:
1 - ماذا تجيب على من قالوا بالتدرج النصي ورفضوا النسخ؟
2 - خاتمة البحث جاء بالكلام على آية في سورة النساء: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (15) سورة النساء ... البعض يقول ان هذه الاية تتحدث عن السحاق وليس عن الزنى ويستدل بالاية التي تليها: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (16) سورة النساء فكلمة {واللذان} في الاية تشير الى اللواط حيث اتت الصيغة بالمذكر, فتناسب ان تكون الاية السابقة تتكلم عن السحاق او عن الفاحشة بشكل عام ... أرجو الافادة على مدى صحة هذا الكلام
3 - حسبما قرأت فاني وقفت على ان سورة النحل هي سورة مكية وقد استدللت بقوله تعالى في سورة النحل: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101) على النسخ ... فهل حصل في القرآن المكي نسخ؟ ام انها محمولة على الاعجاز القرآني في تنبؤه لما سيقول الكفار والمشركون لاحقا؟
وجزاك الله عنا كل خير
¥