الوجه الخامس: أن تفسير القرآن بعضه ببعض هو أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل؛ ولهذا كان يعتمده الصحابة – رضي الله عنهم -، والتابعون، والأئمة بعدهم؛ واللهُ تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم القبلة والوجهة، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه؛ فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين.
الوجه السادس: أن الآية لو احتملت كل واحد من الأمرين لكان الأولى بها إرادة وجهه الكريم؛ لأن المصلي مقصوده التوجه إلى ربه؛ فكان المناسب أن يذكر أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك، وليس في اختلاف الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك.
الوجه السابع: أنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسِّرةً للآية مشتقةً منها، كقوله r : » إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه «([4])،… وقوله:» إن الله يأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت «([5]).…) ([6]).
الدراسة:
هذه مسألة في التفسير مشكلة، وقد رجح ابن القيم في كلامه السابق أن المراد بالوجه في الآية: وجه الله U ، الذي هو صفة من صفاته. وهذا هو القول الأول في هذه المسألة.
والقول الثاني: أن المراد به هنا: قبلة الله، أي: فثَمَّ قبلة الله. وهذا قول مجاهد، والشافعي – كما سبق -.
وابن القيم في كلامه السابق قد كفانا مؤونة تقرير القول الذي رجحه، وذكر من وجوه ترجيحه ما يغني عن إعادته هنا. وسأكتفي بذكر مواقف أئمة التفسير من هذين القولين، ومن تفسير هذه الآية عموماً:
قرر ابن جرير أولاً أن معنى الآية: (ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب، يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد، عليهم طاعته؛ فولّوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي؛ فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.)
ثم قرر كذلك أن الآية جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص؛ لأن قوله: ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ? يحتمل الوجوه التالية:
· أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوّكم، في تطوّعكم ومكتوبتكم؛ فَثمَّ وجه الله – كما قال بعض أهل التأويل -.
· فأينما تُولّوا من أرض الله فتكونوا بها؛ فَثَمَّ قِبْلَةُ الله التي توجهون وجوهكم إليها لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها – كما قال مجاهد -.
· فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم؛ فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم.
ثم قال: (فإذ كان قوله عز وجل: ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ? محتملاً ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها.)
ثم أطال في تقرير عدم جواز ادعاء نسخ هذه الآية، وذكر في ذلك قواعد مهمة في مسألة النسخ في القرآن.
ثم ختم بذكر الأقوال التي رويت في تأويل: ? فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ?، فذكر أربعة أقوال:
الأول: فثم قبلة الله.
الثاني: فثمّ الله تبارك وتعالى.
الثالث: فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.
الرابع: عنى بالوجه: ذا الوجه، وقال قائلوا هذه المقالة: وجهُ الله صفةٌ له.
ولم يذكر موقفه من هذه الأقوال الأربعة، وقد يكون ذلك لأنها مقبولة كلها عنده. ([7])
وأما ابن عطية فنقل اختلاف المفسرين في المراد بالوجه المضاف إلى الله عموماً، والمراد به في هذه الآية على وجه الخصوص، فقال: (واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافاً إلى الله تعالى في مواضع من القرآن:
فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب؛ إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد، وأجلها قدراً.
وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. …
ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه: الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه كما تقول: تصدقت لوجه الله تعالى.
ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه: الجهة التي وجهنا إليها في القبلة …
وقال بعضهم: يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه، كما تقول: فلان وجه القوم أي موضع شرفهم؛ فالتقدير فثم جلال الله وعظمته.) ([8])
¥