بينها والاختيار منها بناء على قواعد معتبرة عند أهل الفن.
ومن الذين لهم جهد مشكور في تيسير التفسير وتقريبه للناس، الشيخ الدكتور مساعد بن سليمان الطيار، حيث كتب في ذلك تفسيراً لجزء عم، سار فيه على طريقة المتن والحاشية. وهو يقوم الآن بالكتابة في تفسير جزء تبارك، ولعله يحدثنا عن تجربته في التدريس فهو صاحب دروس كثيرة وفقه الله ونفع به.
ثانياً: الوقت المحدد للدرس. وقد تحدث أخي الحبيب حسن الكبهي عن ذلك وعن غيره فأجاد.
وأريد أن أذكر نفسي وإياكم بما قاله ابن عطية رحمه الله في مقدمة تفسيره لعل ذلك ينشطنا للعمل، وهو قوله:
(وبعد -أرشدني الله وإياك - فإني لما رأيت العلوم فنوناً، وحديث المعارف شجونا، وسلكت فإذا هي أودية، وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية، رأيت أن الوجه لمن تَشَزَّن - استعد وتأهب - للتحصيل، وعزم على الوصول، أن يأخذ من كل علم طرفاً خيارا، ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارا، ولن يرتقي هذا النجد، ويبلغ هذا المجد، حتى ينضي مطايا الاجتهاد، ويصل التأويب بالإسآد (=يهزل رواحل الاجتهاد)، ويطعم الصّبِرَ، ويكتحل بالسهاد.
فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقا، وأدمنت حتى تفسختُ أينا، وتصببت عرقا، إلى أن انتهج بفضل الله عملي، وحزت من ذلك ما قسم لي، ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى، وتحيز في العلوم واجتبى، أن يعتمد على علم من علوم الشرع، يستنفد فيه غاية الوسع، يجوب آفافه، ويتتبع أعماقه، ويضبط أصوله، ويحكم فصوله، ويلخص ما هو منه أو يؤول إليه، ويفي بدفع الاعتراضات عليه، حتى يكون لأهل ذلك العلم كالحصن المشيد، والذخر العتيد، يستندون فيه إلي أقواله، ويحتذون على مثاله.
فلما أردت أن أختار لنفسي، وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي، سبرتها بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم، فوجدت أمتنها حبالاً، وأرسخها جبالا، وأجملها آثارا، وأسطعها أنوارا، علم كتاب الله جلت قدرته، وتقدست أسماؤه الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، هو العلم الذي جعل للشرع قواما، واستعمل سائر المعارف خداما، منه تأخذ مبادئها، وبه تعتبر نواشئها، فما وافقه منها نصع، وما خالفه رُفِضَ ودُفِع، فهو عنصرها النمير، وسراجها الوهاج وقمرها المنير، وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريباً إلى الله تعالى، وتخليصاً للنيات، ونهياً عن الباطل وحضاً على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا فيحتل حامله من منازلها صيدا، ويمشي في التلطف لها رويدا، ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكراً عَمَرَتهُ – أكثر عمره – معانيه، ولساناً مرن على آياته مثانيه، ونفساً ميزت براعة وصفه مباهيه، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه، فثنيت إليه عنان النظر، وأقطعته جانب الفكر، وجعلته فائدة العمر، وما ونيت - عَلِمَ الله - إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب، ويمس من لغوب، أو بحسب تعهدِ نصيبٍ من سائرِ المعارف).
إلى أن قال: (وأنا أسأل الله – جلت قدرته – أن يجعل ذلك كله لوجهه، وأن يبارك فيه، وينفع به، وأنا وإن كنت من المقصرين، فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيراً من علم التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعمرت به زمني، واستفرغت فيه مُنَّتِي، إذ كتاب الله تعالى لا ينفذ إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليستصوب للمرء اجتهاده، وليعذر في تقصيره وخطئه، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
وفي كلامه هذا نفائس كثيرة منها:
- أن هذا العلم من أشرف العلوم، وأنه قد اختاره رحمه الله من أجل هذا، ورأى أنه أولى العلوم بإنفاذ العمر فيه وتدبره.
- أن علم التفسير علم واسع، قد اتخذ كل العلوم خادمةً له، فلا بد منها للمفسر على قدر الوسع والطاقة، وبقدر التمكن في العلوم الخادمة، يفتح الله بتوفيقه ومنه وكرمه على عبده.
- أن طلب علم التفسير يحتاج إلى الصبر والأناة، وقضاء العمر فيه، فكل يوم يزيد في التأمل والتدبر يزيد العلم والفهم للقرآن الكريم، ولعل شهر رمضان إن شاء الله يكون محطة مناسبة لزيادة التأمل والتدبر والقراءة للقرآن الكريم، ومحاولة تقييد الفوائد والأفكار والاستنباطات التي يفتح الله بها على العبد في هذا الشهر الكريم.
- أن في كلام ابن عطية رحمه الله إشارة إلى التخصص في التفسير وهو علم من علوم المقاصد، وأنه لا بد للمتخصص فيه من إتقان علوم الآلة، وهذه مسألة مهمة ينبغي تدبرها والعناية بها.
وما كتبه أخي الكريم حسن وفقه الله كافٍ في هذا، فقد فصل وفقه الله في جميع الجوانب فجزاه الله خيراً، ولكنني قد كتبت هذا الكلام قبل الإجازة الصيفية الماضية، وكنت أؤمل أن أقوم بإكماله على وفق رأي ارتضيته، فلما قرأت كلامه، عرفت أن الأمر قد تأخر جداً، وأن طرح ما كتبته ولو كان ناقصاً خير من التمادي في التأخير، فهذه بعض الأفكار التي أردت أن أشارك بها، مع أنها مقطعة الأوصال.
وللحديث صلة إن شاء الله وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
¥