وهو احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً، فمثاله: اختلافهم حول قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [51].
قال ابن الجوزى: اختلف المفسرون فى معنى الآية على قولين:
الأول: أنه يقتضى التخيير بين الصوم والإفطار مع الإطعام؛ لأن معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية. فعلى هذا يكون الكلام منسوخاً بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [52] وهو منقول عن كثير من السلف.
الثانى: أنه محكم وغير منسوخ وأن فيه إضماراً تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقونه أو لايطيقونه - هذا تقدير آخر - فدية. واشير بذلك إلى الشيخ الفانى الذى يعجز عن الصوم والحامل التى تتأذى بالصوم والمرضع. وهو رأى منسوب إلى بعض السلف. [53].
وهذا المثال كما صلح لصورة السبب الذى معنا الآن فإنه يصلح كذلك لصورة السبب الثامن وهو احتمال الإضمار أو الاستقلال.
ومنه أيضاً خلافهم حول قوله تعالى: (وجاهدوا فى الله حق جهاده) [54] على قولين:
الأول: هى منسوخة لأن فعل ما فيه وفاء لحق الله لا يتصور من أحد إذ لا قدرة لأحد على أداء حق الله كما ينبغى، والناسخ هو قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [55] أو قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) [56]
الثانى: هى محكمة لأن حق الجهاد يكون فى المجاهدة وبذل الإمكان مع صحة المقصد. [57] فعلى هذا تكون الآية محكمة وغير منسوخة.
ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) [58] مع قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) [59]
وأما السبب الثانى عشر:
وهو اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف - رضى الله عنهم - فمثاله: ما حكى من خلاف حول تفسير قوله تعالى: (إنما المشركون نجس) [60]، فقد قيل "نجس" يعنى أنجاس الأبدان، ولذلك قال الحسن: من صافحهم فليتوضأ.
قال السيوطى فى الدر المنثور: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه"، وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: "استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها، فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدى؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودى فكرهت أن تمس يدى يداً قد مستها يد كافر، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها" [61]
وقيل: ليست النجاسة هنا نجاسة الأبدان بل هو خبث الطوية وسوء النية، وليس أخبث ولا أسوء من الشرك الذى انطوت عليه صدورهم وظهر على أعمالهم شئ.
قال ابن الجوزى:
وقيل: إنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة.
وقيل: إنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس. وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح هكذا قال ابن الجوزى. [62]
ويتأيد هذا الرأى بما ورد من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشرك ولم يغسلها، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الأسارى ولا تغسل، وكان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يطبخون فى أوانى المشركين ولا تغسل. [63].
هذا مثال واضح لاختلاف الروايات عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الذى ينتج عنه اختلاف المفسرين.
صور من اختلاف المفسرين لا يعتد بها فى الخلاف
أقول بادىء ذى بدء: ليس كل ما صورته الخلاف مما نلاحظه على أقوال المفسرين يعد خلافاً معتبراً. بل إن كثيراً من هذه الأقوال فى أغلب الأحيان تلتقى فى إطار واحد وما يمكن التقاؤه لا نستطيع أن نعتبره خلافاً معتداً به، ولذلك أسميناه سابقاً "خلاف التنوع"
يقول الشاطبى رحمه الله: الأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه …… ..
فإن نقل الخلاف فى مسألة لا خلاف فيها فى الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق فى موضع الخلاف لا يصح [64]
هذا هو الأصل الأول لما لا يعتد به من صور الخلاف بين المفسرين وهو ما كان ظاهره الخلاف وليس فى الحقيقة كذلك.
¥