هذه الآية نزلت فى فلان أو فى قصة كذا، فهذا الذى نزلت فيه هذه الآية ما هو إلا فرد من عموم أفراد وقعت منهم نفس الواقعة التى نزلت بسببها الآية أو الآيات، والحكم يعم الجميع، ولا يعد من الخلاف كذلك تعدد أسباب النزول ما دام لفظ الآية يحتمل الجميع، فإن كانت الآية أو الآيات قد نزلت عقب هذه الأسباب المتعددة، حكم بأن ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد، بمعنى أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت بسبب هذه الوقائع جميعها.
ومثال ذلك قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن معهم شهداء إلا أنفسهم ... ) [74] فقد ذكروا حول نزول هذه الآيات أسباباً عديدة [75] وقد نزلت الآيات عقبها جميعاً، فحكم على هذه الصورة بالحكم المذكور. وإن لم يجز التاريخ الزمنى بين هذه الوقائع المتعددة أو الأسباب المختلفة أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت عقبها جميعاً حكم على هذه الصورة بتكرار نزول الآيات، ومثال ذلك نزول خواتيم سورة النحل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ………….) فقد جاء فى بعض الأسباب أنها نزلت يوم أحد، وفى بعضها الآخر أنها نزلت يوم الفتح، والفارق الزمنى بين أحد والفتح لا يتيح الحكم بأن يكون ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد، ولذلك حكموا بأن الآيات قد تكرر نزولها مرة يوم أحد وأخرى يوم الفتح. [76].
وحكمة هذا التكرير تعظيم شأن هذه الآيات وتذكير المسلمين بها للعمل بما تأمر به أو تنهى عنه. ولا يغيبن عن البال أن الحكمين المذكورين حول تعدد أسباب النزول إنما هما خاصان بما إذا كانت هذه الأسباب فى درجة واحدة من الصحة، ولم يمكن الترجيح بينها، وإلا فإن الصحيح يقدم على الضعيف والراجح يقدم على المرجوح.
وقد كان من الممكن أن نجعل الحديث عن كون تعدد أسباب النزول مما لا يعتد به فى الخلاف بين المفسرين، كان من الممكن أن نجعله صورة مستقلة لكننا أدرجناه هنا لمناسبته للصورة المذكورة فى الترجمة من جهة كون سبب النزول مثالاً من أمثلة، وفرداً من أفراد تشملهم الآية أو الآيات ممن يتشابهون مع نفس الشخص الذى نزلت فيه الآيات من جهة كونهم قد وقع لهم ما وقع له.
الصورة الثانية
أن يذكر فى النقل أشياء تتفق فى المعنى مع اختلاف الألفاظ والتعبيرات بينما ترجع فى الواقع إلى معنى واحد، فينقل ذلك كله على أنه خلاف وهو فى الحقيقة تفسير واحد، وقد قال فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حكاية لهذه الصورة، وإشارة إلى أنها من خلاف التنوع قال:
- ومما يرجع إلى اختلاف التنوع:- أن يعبر كل واحد - من المفسرين - عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى. وذلك كما قيل فى اسم السيف: الصارم والمهند.
ومثاله أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأسماء القرآن، فأسماء الله الحسنى كلها على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر، والحاصل: أن كل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى يدل على ذاته وعلى ما فى الاسم من صفاته، ويدل أيضاً على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك أسماء النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد وأحمد والماحى والعاقب والحاشر.
وكذلك أسماء القرآن كالفرقان والهدى والشفاء والكتاب [77].
ويمثل لذلك بالخلاف السالف الذكر حول تفسير "الصراط المستقيم" حين فسر مرة بأنه القرآن وأخرى بأنه الإسلام، وعرفنا أن ذلك خلاف تنوع؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، وقد مثل له الشاطبى بخلاف المفسرين حول تفسير " السلوى" من آية (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) [78]، فقال: بعضهم عنه: هو طير يشبه السمانى، وقيل: طير حمر صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور، فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها. [79].
فهذه الأقوال كلها راجعة إلى مسمى واحد وهو الطير، ولأجل ذلك فإنه لا يعتبر خلافاً ما دام مرجعه إلى مسمى واحد فإن أسميناه خلافاً فهى تسمية مجازية لأن صورته صورة الخلاف والحقيقة أنه لا خلاف.
الصورة الثالثة:
¥