أن تذكر أقوال متعددة حول تفسير الآية، بعض هذه الأقوال يتجه إلى تفسير اللغة بمعنى أن يذكر معانى الألفاظ حسب وضعها فى اللغة، وهو ما يسمى بالمعنى الأصلى للفظ، وبعضها يتجه إلى التفسير المعنوى يعنى المعنى المستعمل فيه هذا اللفظ.
ومثاله قوله تعالى: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين) [80] فإن القواء هى الأرض القفر، ولذلك يفسر "المقوين" بالنازلين بالأرض القواء، نزولاً على أصل معنى اللفظ فى اللغة وفسر كذلك بالمسافرين؛ لأن هذا اللفظ صار يستعمل بهذا المعنى، ومثل هذا لا يعد خلافاً فالذين ينزلون الأرض القواء هم المسافرون إليها حيث يقال: أقوى الرجل أى نزل بالأرض القواء، وكيف ينزلها إلا إذا سافر إليها؟
ومنه أيضاً خلاف المفسرين حول المراد بلفظ "قارعة" فى قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة) [81] حيث قال بعضهم: المراد بالقارعة هنا الداهية أو النكبة تفجؤهم، يقال: قرعه الأمر يعنى أصابه، وأصل القرع الضرب. وقال بعضهم: بل المراد بالقارعة السرايا والطلائع. والمعنى تصيبهم سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
فالأولون فسروا اللفظ حسب أصل وضعه، والآخرون فسروه بمعنى مستعمل فيه، فالعرب استعملوا المقارعة بمعنى الضرب فى الحرب [82]، ومثل هذا لا يعد خلافاً، ولذلك قال الشوكانى بعد أن حكى القولين: ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك. [83].
ويدخل فى ذلك لفظ " الغائط " إذ هو فى الأصل المكان المنخفض، وقد كانت العرب تقصده لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم سمى الحدث نفسه بهذا الاسم.
فإن قيل: فهل يفهم من ذلك أن اللفظ الذى له حقيقة شرعية صار مستعملاً فيها يجوز أن يفسر فى القرآن بمعناه اللغوى الذى هو أصل وضعه، كما يجوز أن يفسر بمعناه الشرعى، ولا يعد ذلك خلافاً؟
والجواب بالنفى المؤكد، فكلامنا فى الصورة المترجم بها هو عن اللفظ الذى له أصل فى اللغة وضع له – وكل ألفاظ اللغة كذلك – إلا أنه غلب بعد ذلك استعماله فى معنى آخر من جهة اللغة كذلك، فتفسيره بالمعنى الأصلى لا يتعارض ولا يختلف مع تفسيره بالمعنى الذى استعمل فيه لغة كذلك، لأنه لابد من علاقة بين المعنى الأصلى والمعنى المستعمل فيه كما هو الحال فى المجاز والاستعارة.
ولعل ما يقرب هذا المفهوم - فيما بدا لى - فكرة التضمين فى اللغة، إذ إن الاسم أو الفعل الذى دخله التضمين لا يلغى التضمين معناه الأصلى ولكن يضيف إليه معنى جديداً، فمثلاً قول الله تعالى: (حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق) [84] ضمن فيه لفظ "حقيق" معنى حريص، ولم يلغ مع ذلك المعنى الأصلى للكلمة فصار المعنى: جدير بألا أقول على الله إلا الحق وحريص على ذلك فلن أخل به. [85] وإذا كان هذا هو التضمين فى الاسم فهو فى الفعل كذلك، اقرأ قول الله تعالى: (عيناً يشرب بها عباد الله) [86] حيث ضمن الفعل "يشرب" معنى "يروى" ولذا عدى بالباء، ولم يُلغ مع ذلك المعنى الأصلى إذ الرى هو منتهى الشرب، فجمع الفعل بهذا التضمين بين معنيين لم يلغ أحدهما الآخر ولم يعارضه.
نعود إلى السؤال المطروح والذى أجبت عنه بالنفى:
وتقرير هذا الجواب هو أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، فإن التفسير الصحيح هو الذى يحمل اللفظ على حقيقته الشرعية؛ لأن الشرع قد نقل هذا اللفظ من معناه اللغوى إلى معنى شرعى جديد فوجب التزامه، وذلك كألفاظ الصلاة والزكاة والوضوء وغيرها، فلهذه الألفاظ معان فى اللغة واصطلاحات أو حقائق فى الشرع، وعلى المفسر حينئذٍ تقديم الحقيقة الشرعية لأن القرآن جاء مقرراً للشرع.
هذا ما قرره العلماء، قال الماوردى: إذا كان أحد المعنيين مستعملاً فى اللغة والآخر مستعملاً فى الشرع، فيكون حمله على المعنى الشرعى أولى من حمله على المعنى اللغوى لأن الشرع ناقل. [87] لكن إن دل دليل على إرادة الحقيقة اللغوية فالنزوع إليها لازم وذلك كلفظ الصلاة فى قوله سبحانه: ((وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)) [88].
فالمراد هنا أصل المعنى اللغوى للصلاة، أى: ادع لهم، والدليل هنا هو حديث عبدالله بن أبى أوفى - فى الصحيح - قال: "كان النبى - صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى" [89].
¥