والحاصل أن تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية أثناء تعاملنا مع القرآن الكريم، وكذلك السنة النبوية لأن القرآن والسنة هما المعبران عن لسان الشرع والشرع هو الذى وضع هذه الاصطلاحات فوجب المضى مع ما اصطلح عليه، وكما قالوا: لا مشاحة فى الاصطلاح. لكن إذا قام دليل خاص على تقديم اللغوية فى محل معين يلزم كذلك المصير إليه والقول به كما قدمنا.
الصورة الرابعة:
اختلاف المفسر مع نفسه، بأن يكون قد ذكر رأياً ثم عدل عنه بعد البحث والنظر إلى رأى آخر، فينقل على أنه خلاف وهو الحقيقة ليس كذلك؛ لأن المستقر من رأييه هو الأخير فقط تماماً كالنسخ فى الأحكام -أى كصورته.
ومثل هذا يتحقق بكثرة فى أقوال الفقهاء، فكثيراً ما تقرأ عبارة: هذا الرأى رواية عن أحمد، أو هو قول الشافعى فى القديم، أو الجديد. وقد يوجد منه فى التفسير شئ، ويمثل له بالأقوال الكثيرة المنسوبة إلى ابن عباس - رضى الله عنهما - فإننا نقرأ كثيراً فى تفسير ابن جرير الطبرى فنراه يذكر التأويلين والثلاثة ويذكر تحت كل تأويل رأياً لابن عباس.
أقول: ما كان من هذه الآراء وتلك التأويلات من باب خلاف التنوع قبلناه أجمعه فى الموضع الواحد. وما كان منها من باب خلاف التضاد فلابد من أن يكون أحد الرأيين متأخراً فيحكم بأنه رفع به رأيه المتقدم، وما يقال فى ابن عباس - رضى الله عنهما - يقال فى غيره، لكن الذى دعانا إلى اختياره بالذات دون غيره سببان:
أحدهما: كثرة المرويات المروية عن ابن عباس والمختلفة فى مدلولاتها بغض النظر عن كونه خلاف تنوع أو تضاد.
وثانيهما: أن ابن عباس قد ثبت عنه شئ من هذا القبيل:
أ- فقد ورد عنه أنه كان يفسر الربا المحرم المنصوص عليه فى القرآنية والأحاديث النبوية بربا النسيئة ويقول: بجواز ربا الفضل. لكن ثبت أنه رجع عن ذلك [90] ومن ثم فلا يجوز أن ينقل ذلك على أنه خلاف ما دام أنه قد استقر على رأى حرمة ربا الفضل كذلك، إذ رجوع المفسر أو الفقيه عن رايه السابق هو إلغاء له وإثبات لرأى آخر هو وحده الباقى والذى ينبغى أن ينسب إليه.
ب- ثبت عنه كذلك أنه كان يقول بحل نكاح المتعة، ويفسر قوله تعالى فى سورة النساء: ((فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)) [91] يفسرها بأنها فى نكاح المتعة وأنه حلال معتمداً فى ذلك على قراءة للآية زائدة على تلك المذكورة حيث فيها: ((وما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى)) [92].
ولست هنا فى مقام مناقشة مسألة المتعة ولا مناقشة القراءة المذكورة على أنها حجة من يبيحونها، فقط يكفيك هنا أن تعلم أنها قراءة ليست موجودة فى القراءات العشر بل غير موجودة فى الأربع التى وراء العشر. لكن ما يعنينا هنا فى هذا المقام أن تعلم أن ابن عباس قد رجع عن ذلك. [93].
فقد روى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد كثر القول فى المتعة حتى قال فيها الشاعر:
أقول وقد طال الثواء بنا معاً ... يا صاح هل لك فى فتيا ابن عباس
هل لك فى رخصة الأطراف أنسة ... تكون مثواك حى مصدر الناس
فقام ابن عباس من مجلسه وجمع الناس وخطب فيهم: " إن المتعة كالميتة والدم ولحم الخنزير، فإما إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقد ثبت نسخه" [94]
الصورة الخامسة:
اختلاف القراء فيما ينقلون من روايات لا يعد اختلافاً لأنه لا عمل لهم ولا اجتهاد فى ذلك، فهم مجرد حلقة فى سلسلة من مجموعة سلاسل عملت على نقل القراءات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإذا كان اختلاف القراءات غير معتبر لأن كل واحد من القراء لم يقرأ بما قرأ به وهو ينكر غير قراءته، بل يقر بإجازته وصحته، ولم يقع الخلاف بين القراء إلا فى الاختيار فقط مع اتفاقهم على مبدأ قبول الكل لكونه منقولاً ما دام مستوفياً شروط القبول.
¥