أقول إذا كان هذا الاختلاف غير معتبر، فإن الخلاف الناشئ عنها -أى عن الثابتة منها - غير معتبر كذلك ولسوف يبين لك فيما هو آت تعدد القراءات لم يخل فقط من التناقض والاختلاف بالمعنى المفهوم، كما لم يكن أيضاً سبباً فى حدوث ذلك بين المفسرين بالمعنى المتبادر إلى الذهن كذلك، بل كان سبباً فى إثراء التفسير من جهة كون تعدد القراءات يساعد على إيضاح المعنى حين تبين قراءة عن معنى قراءة أخرى، وكذلك بما تضيفه هذه القراءات من معان جديدة وغير ذلك مما قد ذكر سلفاً من فوائد تعدد القراءات واختلافها، ومما سوف يأتى إن شاء الله أثناء ذكر صور اختلاف القراءات وضوابط التعامل معها ومع الأقوال التفسيرية الناشئة عنها.
وحاصل هذه الصورة فيما يتعلق بما لا يعتد به من اختلاف المفسرين، إن اختلاف المفسرين بسبب القراءات غير معتبر، لكون الاختلاف بين القراءات نفسها غير معتبر، بل أن لذلك فوائده المذكورة فى مواضعها من هذا البحث.
الصورة السادسة:
أن يذكر أحد المفسرين أقوالاً فى تفسير آية، هذه الأقوال جميعها يحتملها نص الآية، ولا دليل لقول واحد منها يبعث على ترجيحه على غيره.
فى هذه الحالة نحمّل الآية جميع هذه الوجوه كتفسير لها، حيث لا مانع يمنع من ذلك، ولا مرجح لرأى منها، ولا نعد ذلك خلافاً ما دام النص القرآنى قد ضم هذه الأقوال المفسرة جميعها بين شاطئيه.
وهذه الصورة موجودة بوفرة فى كتب التفسير، ونستطيع أن نصور لها هنا مثالاً هو تفسير العلماء لقوله تعالى: ((وللرجال عليهن درجة)) [95].، نقل ابن عطية فى المحرر الوجيز أقوالاً متعددة فى تفسير الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء.
فنقل عن مجاهد وقتادة، قالا: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها فى الجهاد والميراث وما أشبهه.
وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك فى الطاعة عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها.
وقال عامر الشعبى: ذلك الصداق الذى يعطى الرجل وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت.
وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء فى المال والخلق، أى أن الأفضل ينبغى أن يتحامل على نفسه، وهذا قول حسن بارع.
وقال ابن إسحاق: الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها.
وقال ابن زيد: الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده ……….
ذكر ابن عطية هذه الأقوال جميعها وكلها صحيحة ولا مانع يمنع من إرادتها كلها، ولذلك قال ابن عطية بعد ذلك تعليقاً عليها: وإذا تأملت هذه الوجوه التى ذكر المفسرون فإنه يجئ من مجموعها درجة تقتضى التفضيل. [96].
الصورة السابعة:
أن يتفق المفسرون على أصل معنى واحد تدور أقوالهم حوله، ثم يختلفون فى كيفية دلالة الآية على هذا المعنى كأن يحمل بعضهم دلالة الآية على هذا المعنى بطريق المجاز، بينما يحمل غيرهم ذلك على الحقيقة.
ومن أمثلة ذلك خلافهم فى تفسير قوله تعالى: ((تخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى)) [97] فقد ذكر المفسرون هنا أقوالاً فى تفسيرها منها ما يلى:
1 - قال بعضهم: المعنى تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ودلالة الحى على المؤمن، والميت على الكافر دلالة مجازية.
2 - وقيل: المراد الحياة والموت الحقيقيان، والمعنى أنه يخرج النطفة من الرجل وهى ميته وهو حى، ويخرج الرجل منها وهى ميتة، وينسب هذا الرأى إلى ابن مسعود.
وقيل: بل المراد أنه يخرج الدجاجة وهى حية من البيضة وهى ميتة، ويخرج البيضة وهى ميتة من الدجاجة وهى حية وينسب هذا الرأى إلى عكرمة. [98].
وعلى كل فالدلالة هنا حقيقية وليست مجازية، مع اتفاق الرأيين على أصل المعنى وهو قدرة الله عز وجل على إخراج الحى من الميت والميت من الحى. أو أن يكون اللفظ مشتركاً لفظياً فيحمله كل منهم على أحد معنييه، مع اتفاقهم على ما يدل عليه ويهدف إليه كاختلافهم حول تفسير قوله سبحانه: ((فأصبحت كالصريم)) [99].
إذ إن لفظ "الصريم" مشترك بين سواد الليل وبياض النهار، ولذلك قيل: المعنى أنها - أى الجنة الواردة فى السورة - أصبحت سوداء كالليل لا شئ فيها، وقيل: بل أصبحت كالنهار بيضاء ولا شئ فيها. فالمقصود هنا شئ واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يلتقيان. [100] وذلك لا يعد خلافاً يعتد به لاتفاقهم على المقصود.
الصورة الثامنة:
¥