تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على أن هذه الخاصية تابعة لحكمة عليا يدور معها المعنى القرآني كله. ذلك أن جملة ما في القرآن من مختلف المواضيع و المعاني الجزئية، إنما يدور جميعه على معنى كلي واحد، هو دعوة الناس إلى أن يكونوا عبيدًا لله بالفكر و الاختيار كما خلقهم عبيدًا له بالجبر و الاضطرار، و أن يدركوا أن أمامهم حياة ثانية بعد حياتهم هذه، و أن يستيقنوا ضآلة هذه الحياة بالنسبة لتلك في كل من خيرها و شرها و سعادتها و شقائها. فالقرآن شأنه أن يبث هذا المعنى الكلي الخطير من خلال جميع ما يعرضه من الأبحاث و المواضيع المختلفة من تشريع و وعد و وعيد، و قصة و أمثلة و وصف؛ و إنما يتحقق ذلك بهذا النسق الذي جرى عليه من التداخل و التمازج في المعاني.

فهو حينما يبدأ بعرض قصة لا يدعك - و لو في مرحلة من مراحلها - تنسى ذلك المعنى الكلي الذي ذكرناه، فهو يخللها بما ليس منها من تهديد أو وعد أو وعيد أو نصيحة أو وعظ تحقيقًا للغرض الذي من أجله تساق القصة، و حفظًا للفكر أن يتشتت مع أجوائها و أحداثها فينسى مساقها الأصلي.

و هو حين يشرح لك أحكامًا في العبادات أو المعاملات أو غيرها، يسلك بك أيضًا نفس المنهج فهو يحاذرأن تستغرق في التأمل في هذه الأحكام من حيث هي علم أو فن برأسه، كما قد يحصل مع من ينكب على دراسة هذه الأحكام في الكتب العلمية الخاصة بها، فيوصلها بآيات ليست منها، فيها وعد أو وعيد أو حديث عن الاخرة أو دليل على وجود الله و عظمته، ليتنبه الفكر، و يظل مستيقظًا للحقيقة الكبرى التي تطوف بها جميع المعاني و الأبحاث.

و لو أن القرآن اتبع في عرض معانيه، هذا الذي يسلكه الناس في تآليفهم و أبحاثهم، فأفرد فصولاً خاصة لعرض الأحكام و التشريع، ثم ميز فصلاً آخر للقصص، و جاء بفصل ثالث في وصف المغيبات كالجنة و النار و هكذا ... لو درج القرآن على ذلك لفات تحقيق الغرض الذي ذكرناه، و لما أمكن أن تكون هذه الفصول المتناثرة انعكاسًا لمعنى كلي واحد تشترك في بثه و التوجيه إليه، و لئن أمكن أن يتذكر القارئ ذلك في تمهيد أو في فصل من الفصول فلسرعان ما ينساه عندما يستغرق في قراءة أو دراسة الفصول الأخرى. و إن هذا الذي نقول، ليس من الحقائق المستعصية أو الخافية على من يصدق التأمل و النظر في كتاب الله تعالى. انتهى الاقتباس

نفهم من هذا الكلام أن المقصود من القرآن هو تقرير أمور الدين من توحيد و عبادات و معاملات و ثواب و عقاب، و هذه المقاصد لم ترتب في القرآن حسب اتحاد موضوعاتها و لكنها مفرقة في السور ة ممزوجة ببعضها البعض، فالقصد الأول تهذيب النفوس، و إعدادها لحياة أبدية سعيدة، و تنظيم الروابط بين الناس، و توجيههم لله وحده، يحيون له، و يعملون بأمره، و يستمدون منه .. و حول ذلك كله يدور إيراد المعلومات الأخرى.

و يؤيد هذا ما يعترض بعض الآيات أو يرد في نهايتها تذييلاً لحكم أو أحكام للتذكير بالله، و التسليم له، و التعريف بسننه، و الحث على الأخلاق الفاضلة، و التنبيه لفعل الخير، و التذكير بالآخرة. و ما أعد الله للمحسنين و المسيئين من ثواب، و للمسيئين من عقاب، و من أمثلة ذلك:

قوله تعالى {و أنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدًا} فالجملة الاعتراضية هنا تعني جلت عظمة ربنا فهو تنزيه لله سبحانه عن اتخاذ الولد و الصاحبة.

و قوله {و نبلوكم بالشر و الخير قتنة و إلينا ترجعون}

و قوله {و قدموا لأنفسكم و أتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه و بشر المؤمنين}

و من امثلته أيضًا الانتقال من الشئون الدنيوية إلى التذكير بالله و اليوم الآخر لتلتفت القلوب من التفكير في متاع الدنيا الزائل إلى نعيم الآخرة الدائم. و بذلك يجذبها من شواغلها المادية ليوجهها إلى طلب الحق و الاستعداد للقاء الله.

{و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون. لتستووا على ظهورهم ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه و تقولوا سبحانه الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون}

نبه بالسفر الحسي إلى السفر إليه تعالى، و نقل القارئ من التفكير في الرجوع للأهل إلى التذكير بالرجوع إلى الله.

{قال هذا رحمة ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكًا و كان وعد ربي حقًا}

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير