قال ابن الأثير عن هذا الضرب: إنه أصعب الضروب الأربعة طريقاً وأضيقها باباً لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني .. (23) وضرب لنا مثلاً آخر آية قرآنية غاية في الإيجاز، وهي في وصف بستان، [فيهِ منْ كُلِّ فاكِهَةٍ زوجان] شرحها ابن الأثير شرحاً إطنابياً فقال: جنَّة علت أرضها أن تُمسك ماءً وغنيت بينبوعها أن يستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة، وما كل تربة توصف بالنجابة ... ففيها المَّشمش الذي يسبق غيره بقدومه ... وفيها التفاح الذي رقَّ جلده وتورَّد خدُّه ... وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة ... وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب ... وفيها التين الذي أقسم الله به تنويهاً بذكره .. وفيها من ثمرات النخيل ما يُزهى بلونه وشكله .. الخ (24).
ج-القسم الثالث: الإطناب وفقاً لتقسيمات القزويني:
كان للقزويني (ت 739هـ) دور هام في وضع القواعد شبه النهائية لعلوم البلاغة ومصطلحاتها، فأسهم في الإضافة والتفريع والترسيخ الأمر الذي جعل البلاغيين المحدثين يعتمدون تقسيماته وتعريفاته التي كانت هي حصيلة التطور النظري للبلاغة العربية خلال العصور السابقة.
وهكذا وجدنا الدارسين المعاصرين يتناولون الإطناب وفقاً لتقسيمات القزويني، على شيء من الاختلاف، لجهة التنويع، فكان له ولهم الأنواع الآتية:
1 - الإطناب بالإيضاح بعد الإبهام:
ليُرى المعنى في صورتين مختلفتين؛ أو ليتمكن في النفس أفضل تمكن، ويكون شعورها به أتم (25). كقوله تعالى:) وإنَّ لكُمْ في الأنْعام لَعِبْرةً نَسْقيكُمْ مما في بطونه من بين فَرْثٍ ودَم لَبَنَا خالصاً سائغاً للشاربين ((26).
فقد ذكر المعنى العام وهو (العبرة)، غير الواضح، ثم أعقبه بشرح وتوضيح لا لبس فيه ولا غموض. كان التوضيح على مرحلتين: الأولى هي (سُقيا البطون) والثانية: (اللبن السائغ) الذي يخرج من موضع دقيق لا يكاد يعرفه إلا الطبيب الجراح المختص، تماماً كخلق الإنسان، في قوله تعالى:) من ماءٍ دافقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبْ ((27). فتأمل فائدة هذا الإطناب التوضيحي، وأهميته في شرح جوامع الكَلِمَ.
2 - إطناب التوشيع:
ومعنى التوشيع اللغوي لف القطن بعد ندفه. وهو أن يؤتى في سياق الكلام، وبخاصة الشعر، بمثنى مفسر باسمين، أحدهما معطوف على الآخر. ومنه قول عبد الله بن المعتز (ت 296هـ/ 908م):
سقتني في ليل شبيه بشعرها
شبيهة خديها بغير رقيب
فما زلت في ليلين: شعر وظلمة
وشمسين: من خمرٍ ووجهِ حبيب (28)
فالبيت الثاني، يتضمن ذكر لليلين فسرهما الشاعر بالشَّعر والظلمة، وكذلك عجز البيت نفسه، تضمن ذكراً لشمسين، مفسرين بالخمر ووجه الحبيب.
3 - إطناب الخاص بعد العام أو العكس:
بالنسبة إلى الوجه الأول، يكون الإطناب للتنبيه على فضل المذكور أولاً، حتى كأنه ليس من جنسه "تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات" (29) كقوله جلَّ وعلا: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى] (30). فالحفاظ على الصلوات، يتضمن حكماً الصلاة الوسطى. لكن الباري آثر التخصيص، بعد التعميم، للتنبيه على فضل المخصَّص وهو هنا الصلاة الوسطى (أي صلاة العصر) كونها حلقة اتصال بين صلاتي السُّحور والعشاء.
أما الجانب الثاني أي، ذكر العام بعد الخاص، فكقوله تعالى، ذاكراً أيام الصوم المتوجبة على الحاج والمعتمر غير القادرين على الصدقة والتضحية في الحج: [ ... فَمَنْ لم يَجِدْ فَصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رَجَعْتُم تلك عشرة كاملة] (31).
4 - إطناب التكرير:
فصَّل القزويني أغراض هذا النوع فذكر منها خمسة، نلخصها على الوجه الآتي:
*النكتة؛ وهي هنا الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس (32)، كتأكيد الإنذار في قوله تعالى:) كَلاَّ سوف تعلمون، ثم كَلاَّ سوف تعلمون ((33). ففي التكرار إنذار مُبين أشد وأبلغ مما لو اكتفي بالآية الأولى.
*زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليحصل قبول المتلقي لما يقال له أو يخاطب به كما في قوله تعالى:) وقال الذي آمن: يا قومِ اتَّبعونِ أهْدكُمْ سبيلَ الرَّشاد، يا قومِ إنما هذه الحياة الدنيا مَتاعٌ وإنَّ الآخرة هي دارُ القَرار ((34).
¥