تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمتتبّع لهذه النصوص الكريمة يجد أن اللعب جاء مع الخوض في خمس آيات. اثنتان منها بلفظ الإسم، وثلاثة بلفظ الفعل. وفي الآيات الخمس جاء الخوض مقدّماً على اللعب. وقد نصّ المفسّرون على أن المراد بالخوض هو الباطل. وأضاف الدكتور المطعني في كتابه (خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية) أن إطلاق الخوض على الباطل مجاز في التعبير لأن الخوض إنما يكون في الماء. جاء في مختار الصحاح: " خاض الماء خوضاً ومخاضة."، وقال الراغب: " الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه. ويُستعار في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذم الشروع فيه."

والمجاز فيه يصلح أن يكون استعارة بالكناية حيث يشبّه الباطل بالماء، ثم يحذف ويرمز له بشيء من لوازمه وهو الخوض. والجامع بين المستعار منه والمستعار هو أن كلاً منهما مهلك. الباطل يحقّ بفاعله العقاب. والماء يغرق من يخوض فيه. أو يكون استعارة تبعيّة تصريحية يُشبّه فيها اقتراف الباطل بخوض الماء والجامع ما مرّ. والإستعارة على هذا استعارة مفردة. ويجوز حملها على التمثيل. وهما أولى من الأول.

ولما كان الخوض بهذا المعنى قُدّم على اللعب، وجُعل محتوياً عليه: " فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ". وكذلك في إطلاق اللعب على أعمالهم وسلوكهم مجاز في التعبير على طريق الإستعارة التصريحية التبعية وفيه تعريض بهم، لأن اللعب لا يكون إلا للصبيان غير الراشدين وفيه رمز إلى حقارة أعمالهم حيث لم يترتب عليها نفع كاللعب. ويلاحظ في النصوص أعلاه أنه قدّم أيضاً الهزو على اللعب، لأن الهزو - وهو الإستهزاء والسخرية - أشدّ شناعة من اللعب.

أما الموضعان اللذان قُدّم فيهما اللهو على اللعب، فلأن المقام يقتضي ذلك. والبيان أن اللهو على ما سبق من شأنه أن ينسي اللاهي ويشغله عمّا ينفعه. ولمّا كان معناه كذلك مدح الله الطائعين من عباده نافياً عنهم اللهو، فقال عزّ من قائل: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " النور:36 - 37، أي لا تشغلهم.

وقد نسب الله النسيان إلى الكافرين في سورة الأعراف في الآية التي قدّم فيها اللهو على اللعب، فقال: " الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ " الأعراف:51. فهم هنا ناسون .. لذلك - والله أعلم - قدّم اللهو على اللعب لغلبة صفة النسيان على الموقف، واللاهي ناسٍ أو قريب منه.

أما في آية العنكبوت، فقد جاء قبل الآية التي قدّم فيها اللهو على اللعب قوله تعالى: " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " العنكبوت:61 - 63. وهذه حقائق لو سُئلوا عنها لنسبوها لخالقها، وهذا يقتضي أن لا يكفروا إذن، فلماذا كفروا ولم ينتفعوا بهذا العلم؟

مرجع ذلك أنهم ناسون لاههون .. متشاغلون عنه بلهو الحياة وغرور الدنيا. فجانب اللهو هنا ظاهر، ولذلك - والله أعلم - قُدّم هنا اللهو على اللعب، كما قُدّم هناك.

والله أعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير