والرد أن منشأ إستشكاله عدم تدبر الفرق بين الجملتين. ففي الأولى يخبر سبحانه وتعالى عن هدى الله الذي رضيه لعباده أنه هو الهدى الحق الذي ما عداه كان باطلاً، فالمراد حصر الهدى الحق في هدى الله. وفي الثانية يخبر سبحانه وتعالى أن الهدى الحق الذي من عداه كان مبطلاً هو هدى الله الذي رضيه لعباده، بعكس الأولى، فيكون المراد حصر هدى الله تعالى في الهدى الحق. والفرق بينهما أن الأولى منع كون غير دين الإسلام دين حق، والثانية تطهير وتنزيه لدين الإسلام أن يكون غير حق. ففي كل منهما معنىً زائد على الآخر، وكل منهما مناسب للسياق الذي ذكر فيه.
فالأولى في قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) وفي قوله تعالى: (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين). فالسياق في الآيتين في ذكر من ضل الطريق الصواب وأراد استزلال غيره إلى الباطل، فكان الكلام عن طريق الحق: ما هو؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بما يناسبه، وهو أن يحصر دين الحق الذي يطلبه الإنسان ويبحث عنه في الإسلام.
والثانية في قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون. ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم). فالسياق في ذكر كلام اليهود الذين يريدون أن يصدوا عن سبيل الله تعالى بأن يخادعوا المؤمنين بادعاء أنهم آمنوا بالإسلام ثم ارتدوا عنه لخلل رأوه فيه، ثم كلامهم في العناد في البقاء على دينهم حتى لو كان أحد أوتي من العلم والفضل مثل ما أوتوا، فالكلام عن الهدى: يريدون أن يردوا المهتدين إلى الكفر وأن يصروا هم على الكفر ولا يتبعوا الهدى، فناسب أن يذكرهم الله تعالى أن الهدى والضلال ليس مما يملكون، بل هو لله تعالى، فقال سبحانه: (إن الهدى) الذي تتكلمون عنه (هدى الله) لا يملكه غيره. فدين الإسلام الذي رضيه الله تعالى ليس فيه باطل تشنعون به عليه عند الناس، وفيه من الفضل والعلم مثل ما عندكم، فوجب اتباعه.
والحمد لله رب العالمين.
السابع عشر: في قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) وقوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا).
والرد أن الاستشكال من عدم فهم دلالات حروف المعاني. ذلك أن (إلى) تفيد انتهاء الغاية وأن (على) تفيد العلو. فتكون الأولى مفيدة أنا متعبدون بهذا الشرع المنزل، والثانية مفيدة أن مصدر هذا الشرع هو الله تعالى لا غيره. فكان لكل فائدة زائدة، ولله الحكمة البالغة.
الثامن عشر في قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
والرد أن كلاً من الآيتين يحمل من المعنى ما لا تحمله الأخرى. فالآية الأولى تتكلم عن الذي يقتل أولاده بسبب فقر واقع به، لذا قال بعدها سبحانه وتعالى: (نحن نرزقكم وإياهم) فتكلم عن رزق الوالدين أولاً لما هم فيه الآن من فقر. والآية الثانية تتكلم عن الذي يقتلهم بسبب خوفه من فقر قد يحدث له عند زيادة عياله، لذا قال سبحانه وتعالى بعدها: (نحن نرزقهم وإياكم) فتكلم عن رزق العيال أولاً لأن سبب القتل الخوف على أن لا يجدوا لهم ما يطعمون. والله أعلم، وله الحمد.
فتبين أن التنويع في الألفاظ كان لتنويع في المعاني، ولله الحكمة البالغة.
هذا، والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 01 - 2005, 02:19 م]ـ
:::
فيصل القلاف
أنت هبة من الله لخدمة الإسلام والمسلمين
فواصل حواراتك القيمة فنحن نرغب بك وبكلامك
ـ[فيصل القلاف]ــــــــ[27 - 01 - 2005, 06:48 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أخي الكريم جمال الشرباتي، أذكرتني رجلاً مدح العلامة محدث العصر الألباني يوماً - وهو أهل لأن يمدح رحمه الله - فقال: (إن البغاث في أرضنا يستنسر) ثم ذكر مقولة أبي بكر رضي الله عنه إذ قال: (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون). وقال عن نفسه - وهو أعلم أهل زمانه بالحديث - أنه (طويلب علم).
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[27 - 01 - 2005, 06:54 م]ـ
فيصل
لقد قلت أنت أن جهرة حال من لفظ الجلالة----فهل ممكن أن تكون حالا من محذوف تقديره رؤية
---أي أرنا الله رؤية جهرية
ما رأيك؟؟
ـ[فيصل القلاف]ــــــــ[27 - 01 - 2005, 08:53 م]ـ
أخي الكريم،
(جهرة) مصدر من (جهر) بمعنى ظهر. وهو هنا بمعنى اسم الفاعل، أي واضحاً ظاهراً. فيكون الكلام: (أرنا الله تعالى ظاهراً) وهو قريب جداً أن يكون حالاً من الفاعل. أما أن نقدر محذوفاً ويكون الحال له فنقول: (أرنا الله رؤيةً واضحة) فنعرب (جهرة) نائب عن المفعول المطلق، فلا مانع منه - والله أعلم - إلا أن الأصل عدم الحذف. ولا يخفى أن الأسهل من الإعرابين أولى، والله أعلى وأعلم.
¥