تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالجواب أنا نعلم جميعاً أن (ذا) للإشارة إلى القريب، و (ذاك) إلى البعيد، و (ذلك) إلى الأبعد. فاسم الإشارة هنا في هذه الآية هو للأبعد، وأبعد المذكورات في الآية هو الشرك بالله تعالى، فكان هو المشارَ إليه وحده دون ما سواه، ولله الحمد.

ومثل هذا قوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). فقوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك) لا يراد بعد التخفيف والرحمة الحاصلتين من الله بتشريع القصاص، وإنما المراد بعد العفو والإحسان، وهو أبعد المذكورين، لأن الإشارة كانت بالبعيد. والله أعلم بمراده.

فإن تكلف المتكلف وقال: بل إن (ذلك) تعود على أقرب مذكور، وإنما ذكرت بصيغة البعد تعظيماً لشأن الزنا، وكأنه سافل في القاع.

أو تكلف وقال: بل إن ذلك تعود على كل واحد من المذكورات على حدة، أي من يفعل أي واحد من السابقات فله كذا وكذا، لأنها تحتمل أن تعود على أي واحدة، وحملها على أحدها دون الأخرين تحكم مردود.

قلنا له: هذا غير صحيح.

أما الاعتراض الأول، فلأنه دعوى مجاز، والذي ادعيناه حقيقة، والحقيقة تقدم على المجاز.

ثم لا يتصور أن يذكر أحد الزنا مع ذنبين أعظم منه، ثم يفخمه ويذكر عقوبته، ولا يذكر أكثر منه – بله مثله – للذنبين الأعظمين الآخرين.

أما الاعتراض الثاني فأضعف من سابقه، لأن اسم إما أن يعود على الكل وهو المراد، وهم لا يقولون به؛ وإما أن يعود على كل واحد على حدة، فيكون إشارة بالمفرد المذكر على جمع ولا يصح؛ وإما أن يعود على واحد ليس بعينه، فنقول: الإشارة معرفة، وعودها على شائع غير محدد ينافي التعريف، وهو ممنوع. فدل ذلك على بطلان استدلالهم، ولله الحمد.

أما كونها حملت على أحدها – الذي هو الشرك - دون الآخرين فليس لتحكم، بل لقرينة كما سبق. ثم إنه إن تعذر حملها على أيها لعدم المرجح، وجب حملها على الجميع لا على كل واحد على حدة، لاحتمال أن يكون كل واحد هو المراد. والله أعلم.

فإذا تكبر أكثر من هذا، وأصر على أن (ذلك) تعود على الزنا بوجه ما من المذكور فلم يسلم بما أجبنا عنه، أو بغيرها من الوجوه التي قد يتكلفها، كان جوابه كما يلي:

هذه الآية عامة ظاهراً في كل من زنا أنه يخلد في النار سواء كان مؤمناً أو كافراً، وهذا العموم قد جاءنا ما يخصصه بالكافر دون المؤمن، وهو قوله تعالى: (لا يصلاها – أي النار – إلا الأشقى. الذي كذب وتولى) فجعل تصليتها للمكذب دون غيره، والصلي هنا هو الصلي المؤبد اتفاقاً بيننا وبين الخوارج، إذ لا يختص الكافرين بمجرد الدخول اتفاقاً، فلزم أن يكون الذي اختصوا به منها هو الخلود.

وكذلك قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) ولو كانا كافرين خالدين في جهنم بزناهما لزم قتلهما ردة، أو حتى استتابتهما، فلما لم يقتلا ولم يستتابا علمنا أنهما لم يزالا على الإيمان، ولله الحمد.

وقال تعالى في القتل – الذي هو أعظم من الزنا -: (فمن عفي له من أخيه شيء) فسمى القاتل أخاً له، ولو كان كافراً انقطعت أخوته، فدل على أنه مؤمن. ثم في الآية أن للولي العفو، والشرك لا شفاعة فيه لأحد من البشر.

وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والزنا دون الشرك لا شك، فجعله الله تعالى معلقاً بالمشيئة، فلم يكن خالداً في النار. إذ الخالد في النار ليس داخلاً تحت المشيئة كما قال تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون).

فهذه كلها نصوص، ولا يمكن تخصيصها كلها بهذه الآية الفريدة، بل الواجب العكس، أن تخصص هذه الآية بهذه الآيات، وذلك لوضوح دلالاتها بخلاف دلالة آية الفرقان فلن نصل إلى احتمال أن المراد هو الزنا وحده إلا بتكلف شديد ومدافعة للقرائن كما مر سابقاً، ثم دلالات هذه الآيات على خصوص الموحدين العصاة بالنجاة أظهر من دلالة آية الفرقان على عموم الزناة بالخلود، ثم الخاص مقدم على العام في محل التعارض. والحمد لله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير