وبهذا تهافت قول الإباضية قبحهم الله كأقاويل غيرهم من أهل البدع، لا تستند إلى صريح الكتاب، وإنما إلى متشابهاته، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض. والأمر كما قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).
أما أهل السنة رضي الله عنهم فيرجعون المتشابهات إلى المحكمات، فيأخذون من دلالاتها المحتملة ما كان موافقاً للمحكمات، فتجتمع لهم بذلك أدلة الكتاب متضافرة، ولله الحمد. كما قال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا).
ثم إنه بقي شبهتان ذكرهما بعض الكتاب عفا الله عنه، أذكرهما وأتبعهما بالجواب عنهما، والله المستعان.
الأولى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي فيه: (ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فهذا ليس فيه كفر الزاني، ولا فيه خروجه من مطلق الإيمان. غاية الأمر أن النفي هنا متوجه إلى الإيمان المطلق – الإيمان الكامل الكمال الواجب – لأن النفي يصح بانتفاء الحقيقة ولو بقي الأصل.
ومثال ذلك في الشرع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صلاة في حضرة طعام) أي أنها ينقص من خشوعها الواجب ما تفقد به حقيقتها، وإن كانت مجزئة لكن يأثم صاحبها.
ومثال ذلك من كلام العرب ما ذكر الإمام اللغوي أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أنك تقول للابن العاق أباه إنه ليس بولده، لا تعني الطعن في نسبه، لكن تعني حقيقة البنوة التي هي المودة والاحترام، وتقول لمن صنع لك باباً رديئاً لم يصنع شيئاً، لا تعني أنه لم يقطع الخشب ولا دق المسامير، لكن تعني أنه لم يصنع الشيء المطلوب، وهكذا.
فهذا الزاني قد خرج من الكمال الواجب الذي يدخل صاحبه الجنة من غير عقاب، وإن كان مع ذلك غير خارج عن أصل الإيمان الذي به يستحق عدم الخلود في النار.
وأما قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً أم تقولون على الله ما لا تعلمون) فلا دلالة فيه على أن عصاة الموحدين غير مضمون لهم الخروج من النار ولو دخلوها.
وذلك لأن الآية في اليهود الذين هم كفار مستوجبون الخلود، فلا يصح حمل الآية على العاصي الذي لم يأت بما يستوجب الخلود. فالكافر يذم إن ادعى عدم الخلود لأنه أتى بما استوجب الخلود ثم ادعى عدم الخلود. بينما نحن ندعي أن العاصي لا يخلد في النار، لا لشيء إلا لأنه لم يأت بما يستوجب الخلود بنص الآيات السابقات.
ثم تتمة الآية تنقض هذه الدلالة الفاسدة وتؤكد المعنى الصحيح الذي نريد، قال تعالى بعدها: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) جعل علة خلودهم الكفر، وهو السيئة المحيطة بصاحبها، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فالخلود يدور مع الكفر يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه.
ثم قد ذمهم سبحانه لأنه لا عهد لهم من الله أنهم لا يخلدون في النار، أما نحن – أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم – فإن لنا عهداً عنده سبحانه وتعالى إن لم نشرك الشرك الأكبر أن لا نخلد في النار، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) فأثبت أن لقوم عهداً عنده أن يقبل الشفاعة فيهم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة المشهور: (فيقبض قبضة قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، فيؤتى بهم إلى ماء يقال له الحياة، فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل) فيه أنه يخرج قوماً دخلوها لذنوبهم ويدخلهم الجنة مع أنهم لم يعملوا خيراً قط، فقط لأنهم ماتوا على التوحيد. والحمد لله على جزيل نعمه.
ثم تأمل أن الله تعالى ذمهم لتعديهم بقولهم: (أياماً معدودات) بخلاف أهل السنة، فإنهم وإن اعتقدوا أن العاصي من الموحدين لا يخلد في النار، فإنهم لا يجرؤون على الاستخفاف بعذابه وأنه عدة أيام وينقضي، إذ ذلك يحمل على الاستهانة بالمعصية وعدم الخوف من الله تعالى. بل إنا لا نعلم كم يقضي في العذاب، أيطول به المكث أم يقصر، ولو قصر فلا يستهان به. كيف ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
¥