ولا يخفى أن المشار المفروض [الذي هو قولك: لأضربنك إلا إن رأيت أن أترك الضرب] واقع على هيأة القطع والجزم، كما هو صريح كلام ابن القيم وصاحب الكشاف. فقول الرازي: (وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا) خلاف المفروض. وقوله: (فهذا يدل على أن المشيئة ... إلخ) إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول كما يشعر به المثال وينطبق ويتعلق عليه، وإن أراد مشيئة عدم الخلود كما هو مقتضى كلامه، فـ[يكون كلامه في] محل النزاع [النزاع في فناء النار أو عدمها]، ولا يتم تضعيف كلام الخصم [الذي يقول بفناء النار] بإيراده كما لا يخفى [بل يقوى بذلك، لهذا فلا شك أن الرازي يريد مشيئة الخلود].
3. ثم قال ابن القيم:
وقالت طائفة أخرى: العرب إذا استثنت شيئاً كثيراً مع مثله ومع ما هو أكثر منه، كان معنى (إلا) في ذلك ومعنى الواو سواء. والمعنى على هذا: سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة السموات والأرض. وهذا قول الفراء. وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن). قالوا: ونظير ذلك أن تقول: (لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلها) أي سوى الألفين.
قال ابن جرير: هذا أحد الوجهين لأن الله لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء [أي أتبع آية الاستثناء محل البحث] بقوله: {عطاء غير مجذوذ}. وقالوا: نظيره أن تقول: (أسكنك داري حولاً إلا ما شئت) أي سوى ما شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.
وأقول [الصنعاني]: هذا مبني على أنه أريد بالسماوات والأرض سماوات الدنيا وأرضها، أي مقدار بقاء دار الدنيا. فإنه لو أراد سماء الأخرى وأرضها، لما تم أن يقال: إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما، فإنهما أبديتان، لا يتصور عليهما زيادة.
والظاهر أنه أريد من السموات والأرض سموات الآخرة وأرضها، لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسماواتها، إذ لا بد لهم من شيء يقلهما وشيء فوقهما، وهو المراد من سماوات الآخرة وأرضها [وهذا يدل على وجود سماوات وأرض في الآخرة، لكن لا يدل على أنهما المرادان]. ولأن قوله: {ما دامت السموات والأرض} ظاهر في ذلك إذ أن أرض الدنيا وسماواتها قد ذهبت [لأن (ما) هنا ظرفية مصدرية]، ولو أريد [سماوات الدنيا وأرضها] لقيل: ما كانت السموات والأرض.
4. ثم قال ابن القيم:
وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث - وهو البرزخ - إلى أن يصيروا إلى الجنة، ثم خلود الأبد، فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ.
وأقول [الصنعاني]: فيه ما سلف في الوجه الأول، وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم الجنة.
5. ثم قال ابن القيم:
وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك، إعلام لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته، وهذا كما قال تعالى لنبيه: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} ونظائره، يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته؛ ما شاء الله كان وما لم يشا لم يكن.
وأقول [الصنعاني]: إن كان [الاستثناء] تقيداً حقيقة لزم بقاء الخوف في دار النعيم، والله يقول: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} ويقول: {أدخلوها بسلام آمنين الحجر}، والإجماع قائم على أن الجنة لا خوف فيها، ثم يلزم أن يبقى لأهل النار طمع في الخروج منها وروح بذلك، وليس لهم روح ولا فرج. وإن أريد الإخبار بأنه لو شاء تعالى عدم خلود الفريقين لكان له في ذلك حكمة، وان المراد من الاستثناء الإعلام للعباد باتساع نطاق حكمه، فهذا قد يقال إنه وجه وجيه.
[لكن يعترض عليه أن المستثنى هنا مدة وليست إرادة، فليس الكلام إلا أن يشاء الله أمراً، ولكن إلا ما شاء الله من مدةٍ، والله أعلم].
6. ثم ذكر ابن القيم وجهاً قاله لابن قتيبة، كالوجه الذي نقله عن الفراء [أن إلا بمعنى سوى] ولم ينقله لأنه هو [يعني مثله، ونقله تكرار غير مفيد] وإنما اختلفت العبارة.
7. ثم قال [ابن القيم]:
وقالت طائفة: (ما) بمعنى (من) من قِبَل قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}. المعنى: إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء. والفرق بين هذا القول وأول الأقوال أن الاستثناء على ذلك من المدة وعلى هذا القول من الأعيان.
¥