وأقول [الصنعاني]: هذا القول يفتقر إلى تقرير يتضح معه مراد قائله. وتقريره أن الاستثناء من الذين سعدوا قبل الحكم عليهم بقوله: {ففي الجنة}، فيكون المعنى: وأما الذين سعدوا إلا من شاء الله ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، لما تقرر في النحو والأصول أن إخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الحكم عليه بالخبر. إلا أنه يلزم على هذا القول أن تكون الأقسام أربعة:
أ. قوم سعدوا، حكم لهم بالكون في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وهم الذين استثني منهم.
ب. وقوم سعدوا أيضاً لكن لم يبين من الآية حكمهم، وهم الذين أفادهم: {إلا من شاء الله}.
ج. وقوم شقوا محكوم عليهم بالكون في النار خالدين ما دامت السموات والأرض.
د. وقوم شقوالم يتبين حكمهم كما عرفتَ.
ومعلوم أن الموجود في الواقع ثلاثة أقسام: موحدون وملحدون وعصاة الموحدين، فيكون المراد من الآية - على هذا - أن قوماً دخلوا في السعداء باعتبار أنهم شاركوهم في التوحيد، ولكنهم فارقوهم في الكون في الجنة خالدين فيها، ودخلوا في الأشقياء باعتبار أنهم قارفوا ما أغضب الله عليهم من المعاصي، ولكنهم فارقوا بعدم الكون في النار خالدين. فالقسم الثالث [عصاة الموحدين] تحته قسمان: باعتبار دخولهم تحت بالسعادة مع الذين سعدوا، وبالشقاوة مع الذين شقوا كما عرفت.
فكانت الأربعة ثلاثة، وتكون الآية قد بين فيها حكم الفريقين من الموحدين والملحدين، ولم يبين حكم الفريق الثالث منها، وقد بينه الله في قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فمآل المعنى في الآية: فأما الذين سعدوا سعادة خالصة ففي الجنة خالدين فيها، وأما الذين شقوا شقاوة خالصة ففي النار خالدين فيها، وأما الذين أخرجوا من الفريقين فباقون تحت مشيئة الله تعالى.
وهذا الوجه بعد التقرير لا يخفى حسنه.
8. ثم ذكر [ابن القيم] أقوالاً راجعة إلى ما سلف. ثم قال:
وهذه الأقوال متقاربة.
قال [ابن القيم]: ويمكن الجمع بينها بأن يقال: أخبر الله عن خلودهم في الجنة كل وقت، إلا وقتاً شاء الله ألا يكونوا فيها، وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة على الصراط وكون بعضهم في النار.
قلت [الصنعاني]: هذه الإطرفة شيء واحد عائد إلى كونه قبل دخولهم الجنة.
ولكن يبعده ما مر غير مرة [وهو أن الاستثناء لهم بعد دخول الجنة والنار لا قبل ذلك، راجع الوجه الأول].
قال [ابن القيم]:
فإن الاستثناء من خلود الداخلين، وحيث كانوا في عين الجنة، لا يفيد ذلك الكون بخالدين فيها (!!).
ثم قال [ابن القيم]:
وعلى كل تقدير، فهذا الأمر من المتشابه [أي المحتمل معاني عدة لا يظهر لكل أحد المراد منها]، وقوله: {عطاء غير مجذوذ} محكم [نص] وقوله: {أكلها دائم وظلها}. ولهذا أكد خلود أهل الجنة في غير موضع من كتابه، وأخبر أنهم {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء من قوله: {إلا ما شاء ربك} تبين لك المراد من الآيتين [أي أن الاستثناء في كل منهما منقطع، والمستثنى هو شيء حاصل في الدنيا]. واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها. انتهى كلامه.
وأقول [الصنعاني]: قد أفاد أن الاستثناء من خلود أهل الجنة من المتشابه وأن المحكم آية الخلود [عطاء غير مجذوذ] فيجب برد المتشابه إلى المحكم، فالمحكم هو الخلود، وهذا حسن، وتخصيصه بالاستثناء في أهل الجنة بقوله: {عطاء غير مجذوذ} ولما علم يقيناً من أنه لا يخرج من الجنة أحد ممن دخلها، وسيأتي لنا أنه يمكن
¥