ان كلامهم هنا يشعر بان المجاز صدق دائما فإنهم قابلوه بالكذب ... وليس كذلك بل هو كسائر الاخبار فى احتمال الصدق والكذب. ..
الثالث:
ان كلامهم هذا يقتضي ان يكون اللفظ المجازي كاذبا باعتبار معناه الحقيقي البتة وليس كذلك إذ يجوز ان يجيء اليه الحيوان المفترس مثلا ايضا ... لكن مجيئه ليس مقصودا بالافادة من الكلام بل المقصود إفادة مجيء الرجل الشجاع ....
وأجاب "المولوي" عن الاول بأن الذي يجب تنزيه الكلام البليغ عن تهمة الاشتباه هو الكذب ولذلك خصوه بالذكر .... وعن الثاني بأن معنى كلامهم أن التأويل ونصب القرينة يدفعان عن المجاز كونه قطعي الكذب .. لا انهما يجعلانه قطعي الصدق .. حتى يرد عليهم ما اورد ........ وعن الثالث بأن القوم إنما حكموا بأن قرينة المجاز إنما تمنع من ارادة المعنى الحقيقي من اللفظ أي تمنع السامع ان يذهب ذهنه الى المعنى الحقيقي .. هو مراد المتكلم من هذا اللفظ لا انها تمنع المعنى الحقيقي من ان يوجد جائيا فى نفس الامر .. فقولك:"يرمي" إنما يمنع ان يكون مراد المتكلم من الاسد الحيوان المفترس لا من يوجد جائيا للمتكلم فى نفس الامر .... "
لا يخفى ان الجواب على الاعتراض الثالث ضعيف ... فمن قال "جاء الاسد يرمي"فقد قصد الاخبار بخبر واحد يتضمن ثلاثة امور: اسد هو انسان ... جاء منتقلا من مكان الى مكان .... وهو فى حالة رمي ...
وجواب المولوي يقتضي فصل الفعل عن الفاعل والحال عن صاحبها ... وليس هذا مراد المتكلم أبدا ... فذهن المستمع يدرك الجملة كلا ... فيفهم ان رجلا شبه بالاسد جاء يرمي ..... ولا يفهم ان اسدا حقيقيا جاء بسبب القرينة ... ولكن لو ثبت ان الاسد الحقيقي هو الذي جاء بدل الشجاع من الناس لكان الخبر كذبا لا محالة .... فلا يزول اعتراض العصام .... عندما قال: ان كلامهم هذا يقتضي ان يكون اللفظ المجازي كاذبا باعتبار معناه الحقيقي البتة وليس كذلك إذ يجوز ان يجيء اليه الحيوان المفترس مثلا ايضا.
ونزيد المسالة تفصيلا فنقول .. :"جاء أسد يرمي"تعبير يلقيه المتكلم للمخاطب .. وقصده ان ينصرف ذهن المتلقي عن الاسد الحقيقي ... بقرينة الاستعارة التصريحية .. وهي فعل "يرمي"فكأن المتكلم قال: افهم أن اي شيء جاء جائز ... لكن الاسد الحقيقي ممنوع من المجيء .... وهذا صحيح على مذهبهم لانهم يزعمون ان القرينة مانعة لا معينة ... لكن احتمال مجيء الاسد ممكن قطعا ... فجاء اضطراب القوم .... وقد تعمدنا الوقوف عند هذه النقطة من البحث .. لما لها من ذيول فى مسالة الاسماء والصفات .... فعندما يثبت الله لنفسه "يدا"يزعم المخالف ان هذا مجاز ... ويقول فى اجرائه ... لقد قامت القرينة العقلية وانتصبت لتعلن ... ان اليد الحقيقية ممنوعة لرب العالمين ... ولك مسلكان: ان تكتفي بالقرينة المانعة ولا تعين معنى وراء ذلك .. وهذا هو التفويض .. أو تجتهد لايجاد معنى يعادل اليد ويليق بالرب جل فى علاه ..... اما الاتفاق على ان المعنى الحقيقي غير مراد فهو قطعي عند الفريقين ....
ويقال للفريقين ... ولكن الاسد الحقيقي يجوز ان يأتي .... فلم لا يجوز للمعنى! الحقيقي لليد ان يكون مرادا ايضا ....
وقد حاول الصبان ان يحوم حول الاشكال فقال:"لا يخفى ان هذا الجواب -يقصد جواب المولوي-لا يلاقي الاعتراض الثالث ولا يدفعه .. ويمكن دفعه بأن كلام القوم مفروض فيما إذا كان المعنى الحقيقي منتفيا بدليل قولهم فى التمثيل: إذا قال قائل:"جاءني اسد" مع ان الاسد الحقيقي لم يجىء اليه .. وبفرض ذلك يكون اللفظ المجازي كاذبا باعتبار معناه الحقيقي البتة فافهم ... "
ولكن ماذا يفهم؟
فقولهم "مع ان الاسد الحقيقي لم يجىء اليه .. "هل عرفوه من قول القائل "جاءني اسد" ام من مصدر آخر ......
فإن لم يفهم من الكلام .. كان الخطاب عبثا ... سواء أكان حقيقة ام مجازا ولأصبح نصب القرينة لا معنى له لان القطع بعدم مجيء الاسد ثبت من غير كلام المتكلم ...
وان فهم منه ... بقي الاعتراض السابق ...
¥