تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[07 - 05 - 2005, 05:51 م]ـ

ثالث درجة [ line]

الأسلوب [ line]

بعد هذا يحسن بك أن تَعرف شيئاً عن الأُسلوب الذي هو المعنَى المَصُوغُ في ألفاظ مؤَلفة على صورة تكونُ أَقربَ لنَيْل الغرض المقصود من الكلام وأفعل في نفوس سامعيه، وأَنواع الأساليب ثلاثة:

الأُسلوب العلمي: وهو أهدأُ الأساليب،،أكثرها احتياجاً إِلى المنطق السليم والفكر المستقيم، وأَبعدُها عن الخيال الشِّعرىّ، لأَنه يخاطب العقل، ويناجى الفكر ويَشرَح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء، وأظهرُ ميزات هذا الأُسلوب الوُضوح. ولا بد أن يبدوَ فيه أثر القوة والجمال، وقوته في سطوع بيانه ورصانة حُججه، وجَمالهُ في سهولة عباراته، وسلامةِ الذوق في اختيار كلماته، وحُسن تقريره المعنى في الأَفهام من اقرب وجوه الكلام.

فيجب أن يُعنى فيه باختيار الأَلفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك، وأن تُؤلّف هذه الأَلفاظ في سهولة وجلاء، حتى تكون ثوباً شَفًّا للمعنى المقصود، وحتى لا تصْبح مثارًا للظنون، ومجالا للتوجيه والتأْويل.

ويحسن التنَحِّي عن المجاز ومُحَسِّنات البديع في هذا الأُسلوب؛ إَلا ما يجئ من ذلك عفوًا من غير أن يَمَسَّ أصلاً من أصوله أو ميزة من ميزاته. أما التشبيه الذي يُقصد به تقريبُ الحقائق إِلى الأفهام وتوضيحُها بذكر مماثلها، فهو في هذا الأسلوب حسن مقبول.

ولسنا في حاجة إلى أَن نُلقي عليك أَمثلة لهذا النوع، فكتُبُ الدراسة التي بين يديك تجرى جميعُها على هذا النحو من الأساليب.

الأُسلوب الأَدبي: والجمال أبرز صِفاته، وأظهر مُميِّزاته، ومَنشأُ جماله ما فيه من خيال رائع، وتَصْوير دقيق، وتلمُّس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء، وإِلباس المعنويِّ ثوب المحسوس، وإِظهار المحسوس في صورة المعنويِّ.

فالمتنبي لا يرَى الحُمَّى الراجعةَ كما يراها الأَطباء أَثراً لجراثيم تَدْخل الجسم، فترفع حرارته، وتُسبب رِعْدة تقُشَعْرِيرةً. حتى إِذا فرغت نوْبَتها تَصبَّبَ الجسم عَرَقاً، ولكنه يُصوِّرها كما تراها في تراها في الأَبيات الآتية:

فلِيْس تَزُورُ إِلاَّ في الظَّلام

وزَائِرتي كأَنَّ بها حياءً

فَعَافتها وباتتْ في عظامي

بذَلتُ لَها المَطَارف والحَشَايَا

فَتُوسِعُهُ بِأَنواعِ السَّقام

يضيقُ الجلدُ عَنْ نَفسِي وعنها

مَدَامِعُها بأَربعة سجام

كأَنَّ الصبحَ يطْرُدُها فتجرى

مُرَاقَبَةَ المَشُوق الْمُسْتهَام

أُراقِبُ وقْتَها مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ

إِذا أَلْقاكَ في الكُرَب العِظام

ويصْدُقُ وعْدُهَا والصِّدْقُ شرٌّ

فكيف وصَلتِ أَنتِ مِن الزِّحامِ

أَبِنتَ الدَّهْر عِنْدِي كلُّ بنْتٍ

والغُيُوم لا يراها ابنُ الخياط كما يراها العالمُ بخارًا مُترَاكِماً يَحُولُ إلى ماء إذا صادف في الجوّ طبقة باردة ولكنه يراها:

من العدْل في كلِّ أرض صلاحا

كأن الغيومَ جُيُوش تَسُومُ

بصوب الرِّهام أجَادَ الكفاحا

إذا قاتل المحْل فيها الغَمامُ

ويُشرِعُ بالوَبْلِ فيه الرِّماحا

يُقَرْطِسُ بالطَّلِّ فيه السِّهامَ

فأثخَن بالضرْب فيهِ الجراحا

وسلَّ عَليْهِ سُيوفَ البرُوقِ

فَتَعْجَبُ منهن خُرْساً فِصَاحا

تُرَى أَلْسُنُ النوْر تُثنى علَيْهِ

وقد يتظاهر الأَديب بإنكار أسباب حقائق العلم، ويتَلمس لها من خياله أسباباً تُثبت دَعواه الأَدبية وتُقوِّى الغرض الذي يَنشدُهُ، فَكَلَفُ البدر الذي يَظهر في وجهه ليَس ناشئاً عما فيه من جبال وقيعان جافة كما يقول العلماءُ، لأَن المَعرِّى يرى لذلك سبباً آخر فيقول في الرثاء:

ولكنها في وجْههِ أثرُ اللَّطم

وما كلْفةُ البَدْر المُنير قديمةً

ولا بد في هنا الأسلوب من الوضوح والقوة؛ فقول المتنبي:

بثانية والمتْلِفُ الشيء غارمُه

قِفي تَغْرَم الأُولى من اللَّحْظِ مُهجتي

غير بليغ؛ لأنه يريد أنه نظر إِليها نظرة أتلفت مهجته، فيقول لها قِفي لأنظرك نظرة أخرى ترد إليَّ مهجتي وتُحييها، فإن فعلْتِ كانت النظرة غرْمَا لِمَا أتلفته النظرة الأُولى.

فانظرْ كيف عانينا طويلا في شرح هذا الكلام الموجز الذي سبَّب ما فيه من حذف وسوء تأْليف شِدةَ جفائهْ وبُعْدَه عن الأَذهان، مع أن معناهُ جميل بديع، فكرته مُؤيَّدة بالدليل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير