وإِذا أردت أن تَعْرف كيف تَظْهر القوة في هذا الأسلوب، فاقرأ قول المتنبي في الرثاء:
رضْوَى على أيْدى الرجالِ يَسيرُ مَا كُنْتُ آملُ قَبلَ نَعْشك أن أرى
ثم اقرأ قول ابن المعتز:
وصاح صَرفُ الدَّهْر أين الرجالْ؟
قدْ ذَهبَ الناسُ ومات الكمالْ
قوموا انْظرُوا كيف تَسيرُ الجبالْ
هذا أبُو المَبَّاس في نَعْشِه
تجد أن الأُسلوب الأَول هادئ مطمئن، وأَن الثاني شديد المرَّة عظيم القوة وربما كانت نهايةُ قوته في قوله؛ "وصاح صَرْفُ الدهر أَين الرجال"
ثم في قوله: "قوموا انظروا كيف تسير الجبال".
جملة القول أن هذا الأُسلوب يجب أن يكون جميلاً رائعاً بديع الخيال، ثم واضحاً قويًّا. ويظن الناشئون في صناعة الأَدب أَنه كلما كثر المجاز، وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأُسلوب زاد حسنه، وهذا خطأ بيِّن، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التكلف، ولا يُفْسِده شرٌّ من تَعمُّد الصناعة، ونَعْتقد أنه لا يُعجبك قول الشاعر:
ورْدًا وعضَّتْ على العُنَّاب بالبَرَدِ
فأَمْطَرَت لُؤْلُؤًا مِن نِرْجِس وسقتْ
هذا من السهل عليك أَن تَعْرِف أَن الشعر والنثر الفنى هما مَوْطِنا هذا الأسلوب ففيهما يزْدهِر وفيهما يبلغ قُنَّة الفنّ والجمال.
الأسلوب الخطابي: هنا تَبْرُزُ قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، وهنا يتحدث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الأُسلوب ووضوحه شأْن كبير في تأْثيره ووصوله إلى قرارة النفوس، ومما يزيد في تأْثير هذا الأُسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه وقوةُ عارضته، وسطوعُ حجته، ونبَرات صوته، وحسنُ إِلقائه، ومُحْكَم إِشارته.
ومن أظهر مميزات هذا الأُسلوب التكرارُ، واستعمال المترادفات، وضربُ الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين، ويحسن فيه أَن تتعاقب ضروب التعبير من إِخبار إلى استفهام إلى تعجب إلى استنكار، وأَن تكون مواطن الوقف فيه قويةً شافية للنفس. ومن خير الأَمثلة لهذا الأُسلوب خطبة على بن أَبي طالب رضي الله عنه لمَّا أَغار سُفيانُ بنُ عوفٍ الأَسدِي على الأَنبار) وقتل عامله عليها:
"هذا أَخُو غامدٍ قد بَلغتْ خيْله الأَنْبار وقَتلَ حَسَّانَ البَكريّ وأَزال خَيْلَكمْ عنْ مَسَالِحِها وَقَتل مِنْكم رجالاً صالِحِين.
"وقدْ بَلغني أَنَّ الرَّجُل منهُمْ كان يَدْخُلُ على المْرأَةِ الْمُسْلمَةِ والأُخرى المعاهدة فَيَنْزعُ حِجْلَهَا، وقُلْبَهَا، ورِعاثَها)، ثم انْصَرفُوا وَافِرِين ما نالَ رجلا منهم كَلمٌ، ولا أرِيقَ لهم دَمٌ، فلو أَن رجلاً مُسْلماً مات مِنْ بَعْدِ هذَا أَسَفاً، ما كان به ملُوماً، بلْ كان عِنْدى جديرًا.
"فَواعجَباً مِنْ جدِّ هؤُلاء في بَاطِلِهمْ، وفَشَلِكُمْ عنْ حقِّكُم. فَقُبْحاً لَكمْ حِين صِرْتُم غَرَضاً يُرْمَى، يُغار علَيْكمْ ولا تُغِيرُون، وتُغْزَوْن وَلا تغزونَ، ويُعْصى الله يترْضَوْن.
قانظر كيف تدرج ابن أَبى طالب في إِثارة شعور سامعيه حتى وصل إِلى القمَّةِ فإنه أخبرهم بغَزْو الأَنْبار أَولا، ثم بقتل عامله، وأَنَّ ذلك لم يكْف سُفْيان بين عوف فأَغْمد سيوفه في نحور كثيرٍ من رجالهم وأَهليهم.
ثم توجه في الفقرة الثانية إِلى مكان الحميَّةِ فيهم، ومثار العزيمة والنخوة من نفسه كل عربي كريم، أَلا وهو المرأَة، فإِن العرب تبذل أَرواحها رخيصة في الذود عنها، والدفاع عن خِدْرها. فقال: إِنهم استباحوا حِماها، وانصرفوا آمِنين.
وفي الفقرة الثالثة أظهر الدَّهَشَ والحَيْرَة من تمسك أعدائه بالباطل ومناصرته، وفشل قومه عن الحق وخِذْلانه. ثم بلغ الغيظ منه مبلغه فَعيَّرهم بالجُبن والخَوَر.
[ line]
منقول---هل نكمل؟
ـ[الحسن البصري]ــــــــ[24 - 03 - 2007, 11:55 م]ـ
جزاك الله خيرا حبيبنا وشيخنا جمال الشرباتي، وبارك الله بكم.
وأعتذر بشدة على تأخري في الإجابة، فإن شئت أكملتَ، وإن شئت تركت.
ـ[المرشد]ــــــــ[25 - 03 - 2007, 09:09 ص]ـ
تجاوب:
دراسة (علم البلاغة) يتعلم على مرحلتين أو ثلاث:
=الأولى: يدرس فيه كبرى أبوابه من خلال مختصر. واعتاد المتأخرون على نظم الأخضري المسمى ب (الجوهر المكنون).وعليه شروح.
=والثانية: يدرس فيه جميع الأبواب والمسائل المعروفة. واعتاد المتأخرون على كتاب (التلخيص) للقزويني. وعليه شروح.
والسلام