تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإن هذا الاقرار الذي توصّل اليه العرب قبل اربعة عشرة قرنًا، نجده يتحقّق بشكل جديد في عصرنا الحالي. فحيثما قلب الانسان نظره في القرآن الكريم، يجد الاعجاز اللغوي في نظامه البديع، وفي ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه، لا ينبو منها لفظ يقال إنه زائد، ولا يعثر الباحث على موضع يقال إنه إثبات لفظ ناقص.

فالباحث المتعمّق في كلمات القرآن، يجد ان لغة هذا الكتاب العظيم ليست كباقي اللغات الوضعية، ذلك ان اعجازه اللغوي، لا يقتصر على نحوه وصرفه واشتقاقه، ولا على بلاغته وفصاحته فحسب، وإنما كذلك على منطقه، الذي يتّخذ منه القرآن سبيلاً في هدايته.

فهناك ارتباط وثيق وعلاقة مطلقة بين اللغة التي يستعملها القرآن، وبين المنطق الذي تعبّر عنه هذه اللغة. ولكن كيف وأين يتجلّى لنا هذا الترابط بين اللغة والمنطق في هذا الكتاب الحكيم؟

عند النظر في قوانين اللغة بشكل عام نجد انها تتمثّل في أدائها لاغراض متعدّدة ومتنوعة، أهمّها أمران اثنان: الاول، وصف العالَم. والثاني، وصفها لذاتها. ففي حين ان التمثيل في الحالة الاولى ينعكس على "استعمال" كلمة ما في عبارة معيّنة، نجد ان التمثيل في الحالة الثانية ينعكس على "ذكر" تلك الكلمة في العبارة نفسها. فما هو الفرق بين الحالتين؟

إننا نكون بصدد "استعمال" شيء ما عندما نسند اليه خاصيّة معيّنة، في قولنا مثلاً: «يرفض زيد ان يمتثل للاوامر». في حين أننا نتكلّم عن "ذكر" شيء ما في حالة اسناد خاصيّة معيّنة لاسم الشيء، وليس للشيء ذاته، في قولنا مثلاً: «هذه الجملة تتكوّن من ست كلمات».

ويبدو الفرق واضحًا بين الجملتين. فالاولى تنتمي الى اللغة الشيئيّة، لكونها تعيّن واقعة شيئيّة تتمثّل في رفض زيد الامتثال للاوامر. في الوقت الذي تطرح فيه الجملة الثانية بعض الصعوبات، لأنها تتميّز بتسميتها لذاتها، اي انها انعكاسية وتقوم بوصف ذاتها، وهي تعود في المنطق الى ما نسمّيه بـ"الاحالة الذاتية". وإن البحث عن الفرق بين هاتين الحالتين يجرّنا مباشرة الى البحث عن المفارقات اللغوية.

فلو دقّقنا النظر في الجملة القائلة: " إن الصبا يسبق الشيخوخة " مثلاً، لعلمنا ان الجملة تفي بشروط اللغة من نحو وتأليف، وان "استعمال" الكلمات الواردة فيها يفي ايضًا بالمعنى المطلوب، الا أنها تكشف لنا في الوقت نفسه عن ثغرة منطقية عميقة! كيف؟

لاننا اذا لجأنا الى اي قاموس لغوي مثلاً، سنجد ان "ذكر" كلمة (شيخوخة) ككلمة، قد سبق "ذكر" كلمة (صبا) ككلمة، وذلك لان ترتيب حرف "الشين" حسب حروف الابجدية قد سبق حرف "الصاد". فطبقًا لما جاء في القاموس، فإن كلمة (شيخوخه) قد سبقت كلمة (صبا)! وهذا الامر يؤدّي الى تناقض في تركيب الجملة القائلة بأن " الصبا يسبق الشيخوخة "! حيث وجدنا ثمّة حالة واحدة على الاقل، التي تدلّ على عدم استقامة هذه الجملة من ناحية منطقية. ذلك ان "ذكر" كلمة (شيخوخة) في القاموس قد سبق "ذكر" كلمة (صبا)، في مثالنا! وان لهذا النوع من المنطق اللغوي تاريخًا طويلاً، ويرجع في اصله الى العصر الاغريقي.

ومن اشهر الامثلة التي ما زالت تشكّل تناقضًا ظاهرًا حتى يومنا هذا، هو ما ورد عن الفيلسوف الكريتي إبمنيدس، الذي وصلتنا عنه العبارة المشهورة: " إن جميع الكريتيين كاذبون"! فما هو التناقض في هذه العبارة؟

بما أن إبيمنيدس يُعدّ من جزيرة كريت اليونانية، اي انه من الكريتيين، وبما انه ادّعى بأن الكريتيين جميعهم كاذبون، كما جاء في العبارة، فلا بدّ للعبارة التي قالها إبيمنيدس ان تكون كاذبة وغير صحيحة!

ولكن .. اذا كانت عبارته غير صحيحة، فهذا يعني ان الكريتيين جميعهم صادقون. واذا صدق جميع الكريتيين، فوجب ان يكون إبيمنيدس ايضًا صادقًا. ولكن اذا صدق إبيمنيدس، فستكون عبارته صادقة .. وعليه فقد دخلنا في دوّامة لا مخرج منها، اذ نجد انفسنا نرجع الى نفس نقطة التناقض والمفارقة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير