تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولقد شكّلت مثل هذه التناقضات والمفارقات عقبات جدّية في المفاهيم المنطقية، وخصوصًا في المنطق الرياضي. وكان اول من تنبّه لهذه النقطة في العصر الحديث عالم الرياضيات النمساوي جودل، والذي تمكّن من تقديم برهان رياضي قاطع في اثباته لما تقدّم من كلام، على استحالة تمثيل عبارة ما لذاتها بصورة مطلقة، اي انه لا يمكن اثبات شيء ما بصورة قاطعة! ولذلك نجد أن المنطق اللغوي الذي نتعامل معه نحن البشر ينقسم الى النوعين اللذين ذكرناهما آنفًا لحالتي "ذكر" شيء ما او "استعمال" ذات الشيء في الكلام.

وعليه فلا يمكننا وصف اية لغة بشرية بالطلاقة، لكونها مولّدًا للتناقضات والمفارقات. ذلك ان اعتمادها يؤدّي حتمًا الى بناء جمل غير متّسقة، اي جملاً تحتمل الصدق والكذب في الوقت نفسه، مثل العبارة الصادرة عن إبمنيدس في المثال السابق. ويتحقّق هذا الامر خاصّة عندما نسمح لتعبير ما بأن يتكلّم عن نفسه، او عندما ينطبق محمول ما على نفسه، او ان تتضمّن مجموعة ما نفسها.

وكملخّص لما ذكرناه اعلاه، نقول: إن "الاحالة الذاتية" تأخذ بعين الاعتبار نوعيّة الكلمات الواردة في عبارة ما، اي انها تفرّق دائمًا بين "استعمال" أو "ذكر" تلك الكلمات. فعندما "نستعمل" كلمة ما في عبارة معيّنة، فإننا نقصد المعنى الذي جاءت هذه الكلمة لتعبّر عنه. في حين أننا عندما "نذكر" كلمة ما، فنحن نتكلّم عن اللفظ، وبالتالي ليس عن المعنى.

وهنا يتّضح لنا الضعف في اللغات الطبيعية، التي نتعامل معها نحن البشر. فمهما علت ومهما توسّعت وترعرعت هذه اللغات، فإنها ستبقى ضعيفة وناقصة، وستحوي التناقضات والمفارقات في ثنايا كلماتها، ذلك ان الفكر الانساني محدود اصلاً، ولن يتأتّى له الاتصاف بالطلاقة ابدًا.

هذا من جهة. ومن جهة اخرى، فإنه طبقًا لمواصفات مبدأ "الاحالة الذاتية"، او ما يُسمّى ايضًا بـ"الانعكاسية"، يمكننا ان نعتمد على هذه الطريقة لامتحان قيمة اللغة، ايّة لغة كانت. وبعودة الى القرآن الكريم، وبما انه يتكلّم عن اشياء عديدة ويستعمل كلمات كثيرة، منها ما يتكرّر ومنها ما يفسّر نفسه، فإنه لو كان من تأليف البشر، لكان من الضروري ان نجد في ثناياه ايضًا مفارقات وتناقضات منطقية، كالتي تعرّضنا لها سابقًا، والتي تجلّت بتطبيق هذا المبدأ عليها. ولكن هيهات .. هيهات ..

ولقد عاب الله تعالى المنافقين وغيرهم ممن يدّعون التناقض في القرآن، والذين هم معرضون عن تدبّره وفهم معانيه المحكَمة وألفاظه البليغة، بقوله تعالى في سورة النساء: ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ?. فلكون الرسالة المنبثقة منه سبحانه خالية من التناقضات والمغايرات، ولكونها متناسقة وثابتة في نصّها، نعلم علمًا يقينيًا انها من عنده سبحانه وتعالى. وإن هذه الآية الكريمة وحدها فيها من الاعجاز ما لا يخطر على قلب بشر. فهي تصرّح بأن سلامة القرآن الكريم من الاختلاف والتناقض هو دليل على كونه من عند الله تبارك وتعالى.

ومع ان هذا التصريح جليّ للاعيان، الا أننا نعجب ان مِن علمائنا مَن أغفل قيمته في مصنّفاته، حتى ان الامام يحيى بن حمزة العلوي قد شكّك في اعتبار كون القرآن خاليًا عن التناقض وجهًا من وجوه إعجازه. يقول رحمه الله في بيانه لما ذهب إليه: " وهذا فاسد لأوجه، أما أولاً فلأن الإجماع منعقد على ان التحدّي واقع بكل واحدة من سور القرآن، وقد يوجد في كثير من الخطب، والشعر، والرسائل، ما يكون في مقدار سورة خاليًا عن التناقض، فيلزم ان يكون معجزًا. وأما ثانيًا فلأنه لو كان الامر كما قالوه في وجه الإعجاز، لم يكن تعجّبهم من أجل فصاحته، وحسن نظمه، ولوجب أن يكون تعجّبهم من أجل سلامته عما قالوه، فلما علمنا من حالهم خلاف ذلك بطل ما زعموه. وأما ثالثًا فلأن السلامة عن المناقضة ليس خارقًا للعادات، فإنه ربّما أمكن كثيرًا في سائر الازمان، واذا كان معتادًا لم يكن العلم بخلوّ القرآن عن المناقضة والاختلاف معجزًا، لما كان معتادًا، ومن حقّ ما يكون معجزًا أن يكون ناقضًا للعادة ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير