وذلك ليقرّر بحُكم قاطع أن " النظر في كلمات القرآن على أساس البُعد العددي لمواقع كل كلمة في سائر الآيات التي جاءت فيها الكلمة القرآنية، اذا وعينا هذه المواقع تفصيلاً وتوصيلاً، فقد وعينا عدد الحقائق السماوية لها تفصيلاً وتوصيلاً ".
لقد استوحى الاستاذ العفيفي من هذا المفهوم للكلمة القرآنية أن الله سبحانه وتعالى ربط كل كلمة في كتابه العزيز مع جنسها من الكلمات الأخرى، وجعل منها شخصيّة واحدة مرتبطة بذاتها، هي شخصيّة القرآن الكريم. ولذلك وجب علينا عند التعرّض لأي كلمة قرآنية ان نتدبّرها من خلال اتصالها بمواقعها وعلاقاتها في القرآن كله.
ولعلّ هذا التصريح الذي أدلى به الاستاذ العفيفي قيّم وجميل، إلا أنه يشعرنا بجزء ضئيل من عظمة المقصود في هذا الوجه من الاعجاز القرآني. فالعفيفي لم يبّين مدى تفوّق الكلمة القرآنية على غيرها من الكلمات، ولم يوفّر لنا الاجابة على أسئلة كثيرة أخرى، منها: أين نجد البناء القولي للكلمة القرآنية بالثبات والحقيقة المرتبطة بها؟ وما هو العلم الذي يمكننا أن نصله من خلال السياق للكلمة القرآنية اذا توالت صِلاتنا بها في كل موقع من مواقعها؟ ومن ثمّ، فأين نجد الفصول الخاصّة التي ترسمها لنا الكلمة القرآنية من خلال تعدّدها في مواقعها عند اتصالها بسياقها القرآني؟
ولذلك نرى أنه للوصول الى الحقيقة التي تعبّر عنها الكلمة القرآنية من خلال تعدّدها في مواقعها، كان لا بدّ من افتراض بُعد جديد يكمل ما انتهى اليه الاستاذ العفيفي. والقاعدة التي ننطلق منها لفهم هذا البُعد هي مبدأ الاحالة الذاتية.
ولنضرب مثلاً يقرّب ما نقوله الى الاذهان: فإن قلت لك: «هذه الجملة تحوي كلمة "تحوي"». فهل هي صحيحة؟ ستقول: أجل، إنها صحيحة، فهذه الجملة تتكلّم عن نفسها، وهي تحوي بالفعل كلمة "تحوي". ولكن ماذا بالنسبة للجملة الآتية: «هذه الجملة تتكوّن من خمس كلمات»؟ فهل هي صحيحة؟ الجواب هو طبعًا بالنفي. لأنك اذا قمت بإحصاء الكلمات الواردة فيها، ستجد أن عددها هو ستة، وليس خمسة، ولذلك كان من المفروض أن تقول: " هذه الجملة تتكوّن من ست كلمات "! وقد تسأل: وما هي علاقة هذه العبارات ببحثنا؟
نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في الآية التي تعرّضنا لها آنفًا أنه لو لم يكن هذا الكتاب من عنده، لوجد فيه الذين يتدبّرونه ? اخْتِلافًا كَثِيرًا ?. أليس كذلك؟ بلى .. ولكن أي اختلاف؟ وما هو وجه الاعجاز في هذه العبارة؟ نقول، والله أعلم، لقد تمّ "استعمال" كلمة ? اخْتِلافًا ? في العبارة القرآنية للدلالة على عدم وجود التناقض في كلامه سبحانه وتعالى.
ولكن في حالة إسناد كلمة ? اخْتِلافًا ? الى "ذكرها" في العبارة القرآنية، سنجد أنفسنا حقًا أمام أمرٍ عجيبٍ، لأننا نحصل على صورة مغايرة تمامًا لما نعهده في الكتب البشرية جمعاء. فإذا أمعنت النظر في ذكر كلمة ? اخْتِلافًا ?، وليس في "استعمالها"، أي في دلالتها المعنوية في الآية، فستتجلّى لك الصورة التالية:
لو كان هذا القرآن من تأليف البشر، لوجدت أن "ذكر" كلمة ? اخْتِلافًا ? ككلمة، جاء فيه أكثر من مرة واحدة، لأن معنى كلمة ? كَثِيرًا ? يفيد الكثرة، وهي بالعادة أكثر من مرة واحدة. والآن وبعد الرجوع الى القرآن الكريم، نجد أن كلمة ? اخْتِلافًا ? جاءت بصيغة النصب هذه في كل القرآن الكريم مرة واحدة فقط، وذلك في الآية التي نحن بصددها هنا.
فكأن الله سبحانه وتعالى يقول إنه لو كان هذا القرآن من عند غيره، ? لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ?، أي لو كان هذا القرآن من كلام البشر، لوجدتم فيه أيها السادة أن كلمة ? اخْتِلافًا ?، "كذكر" لكلمة ? اخْتِلافًا ?، جاءت فيه أكثر من مرة واحدة. ولكن بما أن هذه الكلمة لم ترد بهذه الصيغة الا مرة واحدة في كل القرآن، فإن ما نقرؤه في القرآن الكريم هو حقًا كلام الله سبحانه وتعالى! فهل يمكن لبشر أن يحيط بشيء من هذا القبيل؟ لا يمكن! ولماذا؟ لأن البشر لا يستطيعون تصوير الحقائق بصورة مطلقة، يستوي في ذلك ما كان معلومًا منها عندهم او مجهولاً.
وكلما اتسع إدراكنا لهذه الحقيقة، تبيّن لنا أن التصوير المطلق للعبارات القرآنية يوحي بأن هذا الكتاب العظيم قادم من الملأ الأعلى، وفيه من الإعجاز ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي!
والله تعالى أعلم
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[31 - 05 - 2005, 01:14 ص]ـ
نظرات ممتعة في رحاب آيات القرآن وحقائقه المطلقة
جزاك الله خيرا
ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[31 - 05 - 2005, 05:07 ص]ـ
أخ لؤي
ممتعة جدا إشارتك التي مؤداها أن كلمة "اختلافا" لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في الآية نفسها التي معناها نفي التناقض والتعارض عن آيات القرآن--- وكأنه من بين أهداف ألآية الإشارة إلى هذه الحقيقة بأن كلمة "اختلافا " لم ترد إلا في الآية المذكورة فيها ---ومع جمال هذه الملاحظة ولكني أخشى أن يتهمنا أحدهم بالتكلف
¥