فقد قال: " من حكم الصحابي أنه إذا روى عنه تابعي واحد، وإن كان مشهوراً مثل الشعبي، وسعيد بن المسيب، ينسب إلى الجهالة، فإذا روى عنه رجلان صار مشهوراً واحتج به، وعلى هذا بنى محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج كتابيهما، إلا أحرفاً تبين أمرها " ().
ويرى المقدسي أن شرط البخاري ومسلم هو أنهما يخرجان " الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات والأثبات، ويكون إسنادة متصلاً غير مقطوع فإن كان للصحابي روايان فصاعداً فحسن، وإن لم يكن له إلا راو واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه " ().
وجاء بعد أبي الفضل المقدسي، الحافظ أبو بكر موسى بن موسى الحازمي (ت 584هـ) ففصل القول في رد دعوى الحاكم وأتى بأمثلة أكثر مما أتى به الأول ().
ويرى ابن الأثير أن الحاكم لا يقصد ما فهمه المقدسي والحازمي وإنما يقصد أن يكون للصحابي راويان وإن كان الحديث الذي يحتج به في (ص 117) الصحيحين ليس له إلا راو واحد ().
كما نجد أن الحافظ ابن حجر، أيضاً قد نبّه على خطأ الحازمي في فهمه لكلام الحاكم حيث قال: " وقد فهم الحافظ أبو بكر الحازمي من كلام الحاكم أنه أدعى أن الشيخين لا يخرجان الحديث إذا انفرد به أحد الرواة، فنقض عليه بغرائب الصحيحين، والظاهر أن الحاكم لم يرد ذلك وإنما أراد أن كل راو في الكتابين من الصحابة فمن بعدهم يشترط أن يكون له راويان في الجملة، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك بعينة عنه " ().
وما ذهب إليه الحاكم قد سبقه إليه الحافظ ابن منده – كما رأينا – ووافقه عليه أيضاً صاحبه ومعاصره الإمام البيهقي، فقد قال في كتب الزكاة من سننه عند ذكر حديث بهز عن أبيه عن جده (ومن كتمها فأنا آخذها وشرط ماله) ما نصه: " أما البخاري ومسلم فلم يخرجاه جرياً على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين " ().
وأما الحافظ ابن حجر فقد وقف من كلام الحاكم موقفاً وسطاً بحيث رد كلامه في حق الصحابة واعتبره فيمن بعدهم، قال – رحمه الله – معقباً على كلام الحاكم: " وهو وإن كان منتقضاً في حق الصحابة الذين أخرجا لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط " ().
قال السخاوي: " وقد وجدت في كلام الحاكم التصريح باستثناء الصحابة من ذلك وإن كان مناقضاً لكلامه الأول ولعله رجع عنه إلى هذا (ص 118) قال: الصحابي المعروف إذا لم نجد له راوياً غير تابعي واحد معروف احتججنا به، وصححنا حديثه، إذ هو صحيح على شرطهما جميعاً. فإن البخاري احتج بحديث قيس بن أبي حازم عن كل من مرداس الأسلمي، وعدي بن عمير به، وليس لهما راو غيره. وكذلك احتج مسلم بأحاديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه ()، وأحاديث مجزأة بن زاهر عن أبيه. وحينئذ فكلام الحاكم قد استقام، وزال بما تممت به عن الملام " ().
وأما الصحابة الذين أخرج لهم البخاري ولم يرو عنهم سوى واحد فهم:
1) مرداس الأسلمي عن قيس بن أبي حازم.
2) حزن المخزومي تفرد عنه ابنه أبو سعيد المسيب بن حزن.
3) زاهر بن الأسود عنه ابنه مجزأة.
4) عبد الله بن هشام بن زهرة القرشي عنه حفيده زهرة بن معبد.
5) عمرو بن تغلب عنه الحسن البصري.
6) عبد الله بن ثعلبة بن صغير روى عنه الزهري قوله.
7) سنن أبو جميلة السلمي عنه الزهري.
8) أبو سعيد بن المعلى تفرد عنه حفص بن اصم.
9) سويد بن النعمان الأنصاري تفرد بالحديث عنه بشير بن سيار.
10) خولة بنت ثامر عنهما النعمان بن أبي عياش. فجملتهم عشرة " ().
وقد بنى على هذا الإمام أبو عمرو بن الصلاح قاعدة عامة – من (ص 119) تخريج البخاري ومسلم لأحاديث هؤلاء الصحابة الوحدان – وهي ارتفاع الجهالة والتعديل برواية واحد فقال: " قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم إلا راو واحد منهم مرداس الأسلمي لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم، وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد، منهم ربيعة بن كعب الأسلمي لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذلك مصير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً براوية واحد عنه " () ولقد اعترض على هذا الإمام النووي فقال: "مرداساً وربيعة صحابيان، والصحابة كلهم عدول، فلا تضر الجهالة بأعيانهم لو تثبت " ().
¥