(واحتج) الإمام (مالك) هو ابن أنس في المشهور عنه (وكذا) الإمام أبو حنيفة (النعمان): بن ثابت (وتابعوهما) المقلدون لهما، والمراد الجمهور من الطائفتين، بل وجماعة من المحدثين والإمام أحمد في رواية حكاها النووي، وابن القيم وابن كثير وغيرهم (به) أي بالمرسل (ودانوا) بمضمونه، أي جعل كل واحد منهم ما هو عنده مرسل دينا يدين به في الأحكام وغيرها، وحكاه النووي في شرح المهذب عن كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم، قال: ونقله الغزالي عن الجماهير.
وقال أبو داود في رسالته: وأما المراسيل، فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي، حتى جاء الشافعي رحمه الله فتكلم في ذلك، وتابعه عليه أحمد وغيره انتهى.
فكأن من لم يذكر أحمد في هذا الفريق رأى ما في الرسالة أقوى، مع ملاحظة صنيعه في العلل كما سيأتي قريباً، وكونه يعمل بالضعيف الذي يندرج فيه المرسل فذاك إذا لم يجد في الباب غيره كما تقدم، ثم اختلفوا أهو على من المسند، أو دونه، أو مثله، وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض.
والذي ذهب إليه أحمد، وأكثر المالكية والمحققون من الحنفية كالطحاوي وأبي بكر الرازي تقديم المسند، قال ابن عبد البر وشبهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالاً من بعض، وأقعد وأتم معرفة وإن كان الكل عدولاً جائزي الشهادة انتهى.
والقائلون بأنه أعلى وأرجح من المسند وجهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم.
ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك بصته، وكفاك النظر فيه، ومحل الخلاف فيما قيل إذا لم ينضم إلى الإرسال ضعف في بعض رواته، وإلا فهو حينئذ أسوأ حالاً من مسند ضعيف جزماً، ولذا قيل إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسل، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات، قاله ابن عبد البر، وكذا أبو الوليد الباجي من المالكية، وأبو بكر الرازي من الحنفية.
وأما الثاني: لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير متحرز، بل يرسل عن غير الثقات أيضاً، وعبارة الأول فقال: لم تزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل، والمرسل عنه، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء.
وممن اعتبر ذلك من مخالفيهم الشافعي فجعله شرطاً في المرسل المعتضد، ولكن يد توقف شيخنا في صحة نقل الاتفاق من الطرفين قبولاً ورداً. قال: لكن ذلك فيهما عن جمهورهم مشهور انتهى.
وفي كلام الطحاوي ما يوحي إلى احتياج المرسل ونحوه إلى الاحتفاف بقرينة، وذلك أنه قال في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: إنه سئل: كان عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ما نصه، فإن قيل هذا منقطع، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئاً. يقال نحن لم نحتج به من هذه الجهة، إنما احتججنا به لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله وخلطته بخاصته من بعده، لا يخفى عليه مثل هذا من أموره فجعلنا قوله حجة لهذا من أمور، فجعلنا قوله لا من الطريق التي وصفت.
ونحوه قول الشافعي رحمه الله في حديث لطاووس عن معاذ. طاووس لم يلق معاذاً، لكنه عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ، وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافاً، وتبعه البيهقي وغيره.
ومن الحجج لهذا القول: أن احتمال الضعف في الواسطة حيث كان تابعياً لاسيما بالكذب بعيد جداً بإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين وشهد له بعض الصحابة بالخيرية، ثم للقرنين كما تقدم، بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي، بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة، الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله مناف لها هذا، مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل.
وأوسع من هذا قول عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد ومجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيا في ولاء أو قرابة.
¥