تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

جَمْعِهِ للقرآنِ، وقتالِه مانعِي الزَّكاةِ، وأهلِ الرِّدَّةِ وغيرِها.

وقد قال ميمون بنُ مِهرانَ: «كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ إذا ورد عليه حُكْمٌ نَظَرَ في كتاب الله تعالى، فإنْ وجَدَ فيه ما يقضِي به قضى به، وإن لم يجدْ في كتابِ الله نَظَرَ في سُنَّةِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به، فإن أعْيَاهُ ذلك سأل النَّاسَ: هل عَلِمْتُم أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى فيه بقضاء؟ فرُبَّما قام إليه القومُ يقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإنْ لم يجد سُنَّةً سنَّهَا النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمعَ رؤساءَ النَّاسِ فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به، وكان عُمَرُ يفعل ذلك، فإذا أعْيَاهُ أنْ يَجِدَ ذلك في الكتابِ والسُّنَّةِ سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاءٌ قَضَى به، وإلاَّ جمع علماءَ النَّاسِ واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيءٍ قضى به».

وفي كتاب عمر بنِ الخطَّاب إلى شُرَيْح: «إذا وجَدْتَ شيئًا في كتاب الله فَاقْضِ به، ولا تَلْتَفِتْ إلى غيره، وإن أتاك شيءٌ ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنَّ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يَسُنَّ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاقضِ بما أجمع عليه النَّاس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنَّةِ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يتكلَّم فيه أحدٌ قبلَك، فإنْ شِئْتَ أن تجتهدَ رأيَك فتقدَّم، وإن شِئت أن تتأخَّر فتأخَّر، وما أرى التَّأخُّرَ إلاَّ خيرًا لك» (1).

والمقصود أنَّ الصَّحابةَ ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يرجِعون إلى الرَّأيِ إلاَّ عند عدمِ وجود النَّصِّ.

ثم جرى التَّابعون وتابعوهم لهم بإحسان على منهجِهم السَّليمِ، واقْتَفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيمَ، فكانوا يرجِعُون إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنْ لم يجدوا في الكتابِ والسُّنَّةِ، أخذُوا بأقوالِ الصَّحابةِ، فإن لم يجدوا فيما قَالَهُ واحدٌ منهم، اجتهدوا رأيَهم.

ثمَّ حَمَلَ الرَّايةَ بعدهم الأئمَّةُ من القرن الرَّابع، وساروا على نهجهم، في تَعَرُّفِّهِم على أحكام النَّوازلِ، وقد عَرَفَ الفقهُ في هذا العصرِ نهضةً فقهيَّةً كبيرةً، وحياةً علميَّةً واسعةً، حيث بَرَزَ فيه علماءُ مجتهدون، ودُوِّنَتِ العلومُ في مختلف الفُنُونِ، وكان للفقه الحظُّ الأَوْفَرُ في التَّدوينِ، إلى جانب علم الحديث، بل كان تدوينُ العلومِ الأخرى خَادِمًا للفِقْهِ، وكانت كتبُ الفقهِ تُعنَى بالدَّليلِ، وفقْهِ الصَّحابةِ والتَّابعينِ والفقهاءِ المجتهدين، وكانت أبوابُ الاجتهاد، والنَّظرِ في المسائلِ، وطرق الاستدلال مفتوحةً على مِصْرَاعَيْها، لمنْ هو أهلٌ لذلك.

والحاصل أنَّ هذا العصرَ يُعتبر ـ بحقّ ـ بالنِّسبةِ للفِقْهِ عصرًا ذهبيًّا.

ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، ضَعُفَتْ هِمَّتُهُمْ عنْ سلوكِ سبيل الأوَّلِينَ، وقَصُرَ جهدُهم عن النَّظرِ في النُّصوصِ والاستنباطِ منها، ورَضُوا لأنفسِهِمُ التَّقليدَ المَحْضَ، والتَّعَصُّبَ البَحْتَ، واتَّخَذَ كُلُّ واحدٍ منهم إمامًا يتَّبعه، ومذهبًا يلتَزِمُه، وصار مبلغَ علْمِهم فَهْمُ كلامِ أئمَّتِهم، وبيانُ أدلَّتِهم، والتَّفريعُ على قواعدهم، وبذلُ الجهد في نُصْرَةِ مذهبهم، والرَّدُّ على مخالفيهم، حتى انقَسَمَت دولةُ الإسلام إلى أربعةِ مذاهبَ، لكلِّ مذهبٍ أنصارٌ وأشياعٌ، وأحزابٌ وأتباعٌ.

لقد بلغ من التَّعصُّبِ الأعمى والتَّقليدِ للأئمَّةِ أنْ صارت نصوصُ إمام المذهبِ كَنُصُوصِ الشَّارعِ، كما قال القاضي عياضٌ في «المدارك»: «إنَّ لفظَ الإمام يَتَنَزَّلُ عند مقلِّده بمنزلة ألفاظ الشَّارع» (2)، واشْتُهِرَ عن الإمام الكَرْخِيِّ الذي انتهت إليه رئاسةُ الحنَفَيَّةِ بالعراقِ أنَّه قال: «كلُّ آيةٍ أو حديثٍ يُخالف ما عليه أصحابُنا فهو إمَّا مؤوَّلٌ أو منْسُوخٌ»؛ وادَّعى القومُ انقطاعَ الاجتهادِ، وغلقَ أبوابِه على رأس المائة الرَّابعةِ، ولم يَبْقَ ـ بالنِّسبة إليهم ـ مجتهدٌ مطلقٌ، بل المجتهدُ عندهم الذي يفهم نصوصَ إمامِه، ويُفَرِّعُ على أصوله، ويطْلِقُونَ عليه اسم: «مجتهد مقيّد».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير