تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد بُلِيَ الفقهُ في عصر التَّقليدِ بالجمودِ، وأصابه رُكودٌ، ونَجمَ عن ذلك آثارٌ وخيمةٌ، وعواقبُ ذميمةٌ، من أهَمِّهَا ردُّ النُّصوصِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ المخالفةِ للمذهبِ، ولو بالتَّأويلِ الفاسدِ، ومنها عَزْلُ النُّصوصِ عن المسائلِ، وخُلُوِّ كثيرٍ من كتبِ المذاهب من الأدلَّةِ، والعنايةِ بنقل أقوالِ أئِمَّتِهم، ومنها الاهتمامُ بالكتب المختصرةِ والمتونِ والحَوَاشِي التِي هي أشْبَهُ بالألغازِ، حتَّى احتيجَ إلى شَرْحِهَا، ووضعِ الحواشي عليها، بل يقوم بشرحِها مصنِّفُها نَفْسُه، وقد عَاقَتِ الطَّالبَ عنْ تأصيلِ العلمِ وتحصيلِه، وتكوينِ مَلَكَتِهِ الفقهيَّةِ، ومنها كثرةُ التَّآلِيفِ في الفَنِّ الواحد مِمَّا زادَ الأمرَ تعقيدًا والْتِبَاسًا، وأصابَ طالبَ الفقهِ الملَلُ والكَلَلُ، وعاقَهُ عن التَّحصيلِ.

وقد قال ابنُ خلدون في «مقدِّمته» (1021 ـ دار الكتاب اللُّبْنَانِي): «اعلم أنَّه ممَّا أَضَرَّ بالنَّاس في تحصيل العلم، والوقوفِ على غاياته، كثرةُ التَّآليف، واختلافُ الاصطلاحات في التَّعليم، وتعدُّدُ طرقِها، ثمُّ مطالبةُ المتعلِّم والتِّلميذِ باستحضار ذلك، وحينئذ يُسلَّم له منصِبُ التَّحصيلِ، فيحتاجُ المتعلِّمُ إلى حفظها كلِّها أو أكثرِها، ومراعاةِ طرقهَا، ولا يَفِي عمرُه بما كُتب في صناعةٍ واحدةٍ إذا تَجرَّدَ لها، فيقع القصورُ ـ ولابدّ ـ دون رتبةِ التَّحصيلِ.

ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكيِّ بالكتب: «المدوَّنة» ـ مثلاً ـ وما كُتِبَ عليها من الشُّروحاتِ الفقهيَّةِ، مثل: كتاب ابن يونس واللَّخمِي، وابنِ بشير، و «التَّنبيهات»، و «المقدِّمات»، و «البيانِ والتَّحصيلِ على العُتْبِيَّة»، وكذلك كتاب ابنِ الحَاجِبِ، وما كُتِبَ عليه؛ ثُمَّ إنَّه يحتاج إلى تمييز الطَّريقةِ القَيْرَوَانِيَّةِ من القُرْطُبِيَّةِ والبَغْدَادِيَّةِ والمِصْرِيَّةِ، وطرقِ المتَأَخِّرِينَ عنهم، والإحاطةِ بذلك كلِّه؛ وحينئذٍ يُسَلَّمُ له منصِبُ الفُتْيَا، وهي كلُّها متَكَرِّرَة والمعنى واحدٌ، والمتعلِّم مطالَبٌ باستحضار جميعِها، وتمييزِ ما بينها، والعُمْرُ ينْقَضِي في واحدٍ منها ... ».

ومنها: عدمُ تنقيح كتب الفقه فترى بعضَ المسائلِ مُشَتَّتَةً على مختلفِ الأبواب، فَيُضْطَرُّ الفقيهُ إلى جُهْدٍ كبيرٍ في مراجعتِها، وقد يستغرقُ ذلك مراجعة أبواب وفصول كثيرة، وربَّما يجدُ المسألةَ في غير مظَانِّها، كما هو حالُ بعضِ كتب الحنفيَّة والمالكيَّة؛ ومنها: اتِّساعُ دائرة الخلاف، وظهور الفِتَنِ المذهبيَّةِ حتَّى أفضى ذلك إلى التَّقاتلِ والتَّدابرِ، وطَعْنِ بعضِهم في بعضٍ، وإبطالِ الصَّلاةِ خلفَ بعضِهم بعضًا، كما حصل بَيْنَ الحنفيَّةِ والشَّافعيَّةِ، ومنها: استحلالُ المحرَّماتِ بأَدْنَى الحِيَلِ، وقدْ صُنِّفَتْ في ذلك مُصَنَّفَاتٌ؛ ومنها: اختيارُ الأقوال بالتَّشَهِّي والهوى، وتَتَبُّعُ الرُّخَصِ، والقولُ بالتَّلفيقِ؛ ومنها: كثرةُ الجَدَلِ والمناظراتِ بين المذاهبِ انتصارًا للمذهبِ، وغيرِ ذلك من البلاَيَا التي حلَّتْ بالفقه الإسلامي ...

ففي خِضَمِّ هذا الجمودِ الفِكْرِيِّ والتَّقلِيدِ الأعْمى، والأوضاعِ المزرية الّتي آلَ إليه الفقهُ، كان من الضَّرُورِيِّ إعادةُ النَّظرِ فيه، والعودةُ به إلى العهد الأوَّلِ، وإبرازُه في الحُلَّةِ الزَّاهيَةِ التي كان يَتَحَلَّى بها في العصرِ الذَّهبيِّ، وإصلاحُ ما شَانَهُ، ليَنْهَضَ من كَبْوَتِهِ، ويَصْفُوَ مِنْ كُدْرَتِهِ، ويَسْتَعِيدَ حيَوِيَّتَه ومكانَتَه المرمُوقَةَ التي كان يَحْظَى بها.

وهذه الدَّعوةُ تَتَلاَءَمُ والنَّهضَةَ العلميَّةَ المباركةَ التي يعيشُها العالم الإسلاميُّ اليوم، فلا يصلح آخرُ هذه الأمَّةِ إلاَّ بما صَلحَ بِهِ أوَّلُها.

وتتجلَّى مظاهرُ الإصلاح في الجوانب التَّاليةِ:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير