أما الأول: فيدل على أن النساء كنّ يطفن مع الرجال في وقت واحد، لكن كنَّ يطفن غير مخالطات للرجال، في دائرة أبعد عن الكعبة. ومعنى حَجرة: أي معتزلة في ناحية.
وأما الثاني فقد دل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بذلك، حيث قال لها: "طُوفِي من وَرَاءِ الناس".
وهذا ما فهمه شُراحُ صحيح الإمام البخاري، كعلي بن خلف الشهير بابن بطال المالكي المذهب في شرح صحيح البخاري (4/ 298 - 300)، وابن حجر الشافعي المذهب في شرحه فتح الباري (3/ 480 - 482 رقم1618 - 1619)، وبدر الدين العيني الحنفي المذهب في شرحه عمدة القاري (9/ 260 - 162).
وقد جاء في أخبار مكة للفاكهي (1/ 252): عن فقيه الكوفة الأكبر في زمن التابعين إبراهيم النخعي (ت96هـ)،وهو شيخُ شيخِ الإمام أبي حنيفة، أنه قال: "نهى عمر رضي الله عنه أن يطوف الرجال مع النساء".
وهذا تطبيقٌ عملي للسنة النبوية في طواف النساء، كان إبراهيم النخعي ينسبه إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبذلك يتبيّن أن طواف النساء مع الرجال حول الكعبة المشرفة لم يكن كهيئته اليوم، ليحتجّ به ذلك المحتج على ما أراد. بل ننتهي بأنه حجةٌ على عدم جواز الاختلاط، حتى في ذلك المكان الطاهر المقدس، وحتى في ذلك الجيل الطاهر المفضَّل، جيل الصحابة رضي الله عنهم، وفي حضرة أفضل الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، وأثناء أداء عبادة من أشرف العبادات، تُغيِّبُ الشعورَ بالفتنة في استحضار جلال البيت وجلال ربّ البيت عز وجلّ.
فإذا انتهينا من هذا الجواب، والذي أجبت به عن سؤال السائل، أرى أن أتمّه بتلخيص فقه هذا الباب، بأن أحاول منع جانب الإفراط فيه والتفريط. وهذا إنما يتم بوضع ضابط للاختلاط المحرّم؛ لكي لا يتجاوزه بعضُ أصحاب الغلو إلى جانب تحريم ما أباح الله تعالى، ولا يتجاوزه بعضُ أصحاب التهاون والتفلّت من أحكام الشريعة إلى جانب تحليل ما حرم الله تعالى.
والذي أستطيع أن أضبط به ما يجوز مما لا يجوز من الاختلاط، هو أن الاختلاط المحرّم مرجعه إلى ثلاث صور:
الأولى: الذي يمسُّ فيه جسدُ المرأة جسدَ الرجل؛ إذ لا يشك عاقل أن المس أشد فتنة من مجرّد سماع صوت الخلخال. بل هو أقوى ذريعة إلى الفاحشة من أكثر الذرائع التي حرّمتها النصوص صراحة، كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من المرأة. ودلّ على حكم هذه الصورة بوضوح حديثا المسجد والطواف، بما حرص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تزاحم الرجال والنساء.
فالاختلاط الذي يحصل فيه نوع مسٍّ والتصاقٍ لجسد الجنسين ببعضهما محرّمٌ.
الثانية: الاختلاط الذي يحقّق الخلوة بين المرأة والرجل، ولو أحيانا. لوضوح النصوص في تحريمه، وإطلاقها دون تقييد الخلوة بالطول أو القصر، كما سبق.
الثالثة: دوامُ مُكْثِ الرجل مع المرأة الأجنبية في مكانٍ واحد، ولو لم تتحقّق الخلوة، مثل مكاتب الموظفين في دوامها المستمرّ يوميًّا؛ إذ لا يشك عاقل أن خلوة المرأة مع الرجل خمس دقائق أو ربع ساعة (وهو محرّم) ليس أخطر عليهما من ذلك المكث الطويل المستمر، وما يسهّله هذا الاجتماعُ المستمر من تبادل الحديث بينهما، وما يحققه من الغفلة عن التحفّظ من أسباب الوقوع في شراك الفتنة، وما يؤدي إليه من توسيع مداخل الشيطان بينهما. لا يشك عاقلٌ منصف مبتغٍ للحق في أن هذا اللقاء الدائم، أخطر من خلوة قصيرة، ومن تزاحم لحظة على باب مسجد أو خلال الطواف بالبيت، ومن خضوع بالقول مرّة، ومن قرقعة صوت الخلخال في طريق من طرق المسلمين!!
هذا إن كان الاختلاط لم تصاحبه مخالفاتٌ شرعيةٌ أخرى، كتخفّفٍ من القدر الواجب من الحجاب، أو خضوع بالقول، أو تكسّرٍ في المشي، ونحو ذلك من المحرمات المنصوص عليها.
هذه هي ضوابط الاختلاط المحرّم، وما سواه فهو مباح.
فواجب المسلمين أن يتقيدوا بهذه الضوابط، فلا يخرجوا عنها، لا إلى جانب التفريط، ولا إلى جانب الإفراط.
قال تعالى: "وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ" [الأحزاب:4].
والحمد لله كل الحمد، والصلاة والسلام على محمد، وعلى أزواجه وآله ما تعاقبت شمسٌ وفرقد. والله أعلم.
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التاريخ 05/ 01/1429هـ
التصنيف الفهرسة/ فقه الأسرة/ قضايا المرأة /الاختلاط والمصافحة
موقع الاسلام اليوم