من نافلة القول إن أدب الكاتب نال نصيبا وافرا من الاهتمام والدراسة، فهو أحد أركان كتب الأدب الأربعة، كما أن طبيعته التعليمية والتصحيحية تؤهله لأن يكون مركزا لعناية العلماء شرحا، ودراسة، ونقدا.
ويمكن القول في تعريف النقد إنه "علم وصفي يضع بين يدي الناقد الخبرة والوسائل التي يستطيع بها أن يميز الحسن من القبيح، وأن يحكم الحكم السليم، فالنقد إذا يتعرف ثم يصف ثم يحكم" (1).
وسنحاول في هذه العجالة إبراز بعض مظاهر النقد التي وجهها ابن السيد البطليوسي في كتابه الاقتضاب، والأعلم الشنتمري من خلال رسالة وجهها إلى المعتمد بن عباد، والقلقشندي في صبح الأعشى، مع مناقشة هذه الانتقادات، وبالله التوفيق.
خصص ابن السيد البطليوسي جزءا من كتابه الاقتضاب في نقد بعض ما جاء في أدب الكاتب، ومما جاء في انتقاداته ما صرح به ابن قتيبة بالقول: «ومن ذلك (2) الملة يذهب الناس إلى أنها الخبزة فيقولون أطعمنا ملة، وذلك غلط، إنما الملة موضع الخبزة» (3) فعقب ابن السيد البطليوسي بالقول: «كذا قال يعقوب بن السكيت ولم أر فيه خلافا لغيره، وليس عندي يمتنع أن تسمى الخبزة ملة، لأنها تطبخ في الملة كما يسمى الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب، ويجوز أيضا أن يراد بقولهم: أطعمنا ملة؛ أطعمنا خبز ملة، ثم يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه، فإذا كان هذا ممكنا –ووجدت له نظائر- لم يجب أن يجعل غلطا» (4).
وهذا الذي قاله البطليوسي لا غبار عليه، فكون العرب تسمي الشيء باسم الشيء هو أمر معروف عند الأدباء، قال ابن فارس: «قال علماؤنا: العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب وذلك قولهم: التيمم لمسح الوجه من الصعيد وإنما التيمم الطلب والقصد» (5).
ولعل ابن قتيبة تبع الأصمعي في التفريق بين الخبزة والملة من حيث المعنى، حيث جاء في البخلاء للجاحظ: «والعقيقة دعوة على لحم الكبش الذي يعق عن الصبي ... فسمي الكبش –لقرب الجوار وسبب المتلبس – عقيقة، ثم سموا ذلك الطعام باسم الكبش، وكان الأصمعي يقول: «لا يقولن أحدكم: أكلت ملة بل يقول أكلت خبزة، وإنما الملة موضع الخبزة» (6).
والاعتماد العظيم لابن قتيبة على الأصمعي كمصدر من مصادر تقويم اليد واللسان جر عليه انتقادات البطليوسي حيث أفرد القسم الثالث من انتقاداته على أشياء جعلها ابن قتيبة من لحن العامة معولا في ذلك على ما رواه أبو حاتم عن الأصمعي و أجازها غير الأصمعي من اللغويين (7).
بيد أن ابن الجواليقي في شرح أدب الكاتب لم ينهج نهج البطليوسي في هذا النقد، بل التمس أحسن المخارج لابن قتيبة، حيث قال: «وقول ابن قتيبة: ولا يقال أطعمنا ملة، يريد به أجود الوجهين، فإنه يجوز أن يقال أطعمنا ملة يراد خبز ملة فيحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه، ومثله في القرآن والكلام كثير» (8).
والذي يعضد قول ابن الجواليقي وينصره، أن ابن قتيبة لم يكن ليخفى عليه هذا الأسلوب، بل ذكره في أول كتاب المعرفة من أدب الكاتب بالقول: «والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له أو كان منه بسبب» (9). وهذا يرجح أن الذي قصده ابن قتيبة من تغليط الناس فيه هو أنهم يطلقون الملة على الخبزة على جهة الترادف واتحاد المعنى، وليس على جهة المجاورة والتلبس.
ولم تكن الانتقادات الموجهة لأدب الكاتب حكرا على ابن السيد البطليوسي الذي كثف جهوده النقدية في جزء أفرده لهذا الشأن، بل إن أبا الحجاج الشنتمري المعروف بالأعلم من علماء الأندلس باللغة انتقد على ابن قتيبة بعض ما ذكره في أدب الكاتب، يظهر هذا بجلاء من خلال الرسالة التي رفعها إليه المعتمد بن عباد يوجه فيها سؤالا على لسان الوزير أبي عمرو ابن غطمش ومما جاء فيها: «سألك أبقاك الله الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش سلمه الله عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب والزبيدي في مختصر العين أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام، بالفتح خاصة، فبين لي أبقاك الله تعالى ما تعتقده فيه؟» (10).
¥