وهذا الذي استشكله الوزير هو ما ذكره ابن قتيبة بالقول: «وقال غير واحد: كل أفعل فالاسم منه مفعل –بكسر العين- نحو: أقبل فهو مقبل وأدبر فهو مدبر، وجاء حرف واحد نادر لا يعرف غيره قالوا: أسهب في كلامه فهو مسهب بفتح الهاء ولا يقال مسهب بكسر الهاء» (11).
ومما جاء في رد أبي الحجاج الشنتمري ما يلي: « ... والذي أحفظه وأعتقده أن المسهب بالفتح المكثر من غير صواب، وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب، إلا أني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه، ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي من كتاب البارع أو غيره معلقا في عدة نسخ من كتاب البيان والتبيين على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو:
حصر مسهب جريء جبان ? خير عي الرجال عي السكوت (12)
... قال الخليل: يقال رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في غير صواب وأسهب فهو مسهب إذا أكثر وأصاب ... وقال أبو عبيدة عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أخرف وأهتر» (13).
بيد أن خطأ ابن قتيبة في القول إن مسهب لا تقال بكسر الهاء وقع فيه غيره من كبار اللغويين كالجوهري في الصحاح الذي قال: «أسهب الرجل إذا أكثر من الكلام، فهو مسهب بفتح الهاء ولا يقال بكسرها وهو نادر» (14)، و المعنى لا يقال مسهب بكسر الهاء، و أن مسهبا بفتح الهاء قول شاذ في مألوف كلام العرب.
أما اختلاف الحركة في الهاء فيورث اختلاف المعنى كما نبه إليه أبو الحجاج الشنتمري في رسالته، ولعل هذا دليل على أن انتقاد أبي الحجاج في محله.
أما القلقشندي في صبح الأعشى، والتي يشبهها بعضهم بدائرة المعارف (15)، فلم يرق له قول ابن قتيبة: «ولابد له (16) مع ذلك (17) من النظر في جمل الفقه ومعرفة أصوله من حديث رسول الله وصحابته، كقوله البين على المدعي واليمين على المدعى عليه، والخراج بالضمان وجرح العجماء جبار ... في أشباه لهذا كثيرة إذا هو حفظها وتفهم معانيها وتدبرها، أغنته بإذن الله تعالى من كثير من إطالة الفقهاء» (18).
فقال القلقشندي: «ثم الذي أشار إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الأحاديث التي ينبغي للكاتب حفظها الأحاديث المتعلقة بالفقه وأحكامه ... قلت: والتحقيق أن حاجة الكاتب لا تختص بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه بل تتعلق بما هو أعم من ذلك، خصوصا الحكم والأمثال والسير وما أشبه ذلك مما يكثر الاستشهاد به في الكتابة، والاقتباس من معانيه» (19).
والواقع أن ابن قتيبة لم يسق في كلامه ما يفيد معنى الحصر في كون الكاتب يكفيه العلم بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه حتى يكون دقيق الصنعة في الكتابة، بل إن مقدمة أدب الكاتب فيها براءة لما رماه به القلقشندي من أن حاجة الكاتب محصورة في العلم بأحاديث الأحكام، حيث قال ابن قتيبة في مقدمة كتابه: فعملت لمغفل التأديب كتبا خفافا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد يشتمل كل كتاب على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل، لأنشطه لتحفظه ودراسته، إن فاءت به همته» (20).
فالذي أراده ابن قتيبة من كتابه هو تجنيب الغافلين عن الأدب وفنونه أخطاء قد تقع بأيديهم أو تذكر على ألسنتهم، ولم يرد الإطناب في كتابه تشجيعا لهم على إنهائه، والتمثل بما جاء به.
على أن ابن قتيبة ذكر بعض الأمثال وكأنه يوعز إلى القارئ بأهمية النظر فيما ألف فيها من كتب نحو «أريها السهى وتريني القمر» (21)، «أعق من ضب» (22)، «سكت ألفا ونطق خلفا» (23) إلى غير ذلك من الأمثال.
بل إن ابن قتيبة ذكر في مقدمة كتابه وبفصيح العبارة ما يلي: «ولابد له (24) مع ذلك من دراسة أخبار الناس وتحفظ علوم الحديث ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا بها إذا كتب ويصل بها كلامه إذا حاور» (25).
فهذه إشارة من ابن قتيبة إلى أن أحاديث الأحكام ليست الركيزة الوحيدة التي تخول للكاتب إتقان كتابته وإحكامها، بل لابد له من النظر فيما هو دون ذلك من أخبار الناس لاستكشاف النوادر والطرف والملح وإعمالها في الكلام.
والله أعلم بالصواب.
1 - تاريخ النقد العربي إلى القرن الرابع الهجري لمحمد زغلول سلام: 1/ 15.
2 - أي مما يضعه الناس في غير موضعه.
3 - أدب الكاتب: 32 - 33.
4 - الاقتضاب: 2/ 26 - 27.
5 - الصاحبي في فقه اللغة: 110، وقد عقد ابن فارس بابا خاصا سماه باب الأسمى التي تسمى بها الأشخاص على المجاورة والسبب.
6 - البخلاء: 253.
7 - الاقتضاب: 2/ 5 - 6.
8 - شرح أدب الكاتب: 109.
9 - أدب الكاتب: 17.
10 - نفح الطيب لأحمد المقري التلمساني: 4/ 77.
11 - أدب الكاتب 496.
12 - أنظر البيان والتبيين للجاحظ: 1/ 17.
13 - نفح الطيب 4/ 77 - 78.
14 - الصحاح، 1/ 150.
15 - المنجد في اللغة والأدب والعلوم: 303، والقولة لفرديناند توتل.
16 - الضمير يعود على الكاتب.
17 - أي العلم بالهندسة والحساب كما يدل السياق.
18 - أدب الكاتب: 10 - 11.
19 - صبح الأعشى: 1/ 245 - 246.
20 - أدب الكاتب: 8 - 9.
21 - نفسه: 72.
22 - نفسه: 178.
23 - نفسه: 244.
24 - أي الكاتب.
25 - أدب الكاتب: 10.
في انتظار ردودكم تقبلوا تحياتي ................ و السلام عليكم
¥