ومن المؤلفين من اقتصر على مفردات علوم معينة، ومنها كتب مفردات القرآن (كالمفردات في غريب القرآن) للراغب الأصفهاني 502 هـ، أو مفردات الحديث (كالنهاية) لابن الاثير 606 هـ، أو المفردات التي يتداولها الفقهاء (كالزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) لأبي منصور الأزهري 370 هـ، و (تهذيب الأسماء واللغات) للنووي 676هـ، ومنهم من صنف في المفردات ذات القيمة البلاغية (كأساس البلاغة) لمحمود بن عمر الزمخشري 538 هـ صاحب تفسير (الكشاف) فإنه اقتصر على ذكر الألفاظ التي تدور معانيها بين الحقيقة والمجاز، وإن كان ورود المجاز في اللغة هو محل خلاف ورفضه ابن تيمية وابن القيم؛فهذه أهم معاجم الألفاظ المعروفة وطرائقها في الترتيب والاستيعاب.
الجهة الثالثة من جهات تدوين علم اللغة: هى تدوين المعاني المختلفة مع بيان اللفظ المناسب لكل معنى منها، وهذه هى (معاجم المعاني).
فمعاجم الألفاظ تبدأ بذكر اللفظ ثم تبين معناه، أما معاجم المعاني فإنها تبدأ بذكر المعنى ثم تبين اللفظ المناسب له، ويتم ترتيب المعاني فيها على أبواب، فتذكر الكَثْرة مثلاً ثم تذكر الألفاظ الدالة على الكثرة في مختلف المناسبات والأحوال.
وفائدة معاجم المعاني: اختيار اللفظ المناسب للتعبير عن المعنى المراد بأفصح ماتستعمله العرب.
وأهم معاجم المعاني: كتاب (المخصّص) لابن سِيده (أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي) 458 هـ، وهو كتاب مبسوط ضخم، وهناك كتاب مختصر في مجلد وهو (فقه اللغة وسر العربية) لأبي منصور الثعالبي 429 هـ، وقريب منه كتاب (الألفاظ الكتابية) للهمذاني (عبدالرحمن بن عيسى) 320 هـ.
وعلى هذا فكتب علم اللغة ثلاثة أنواع: " كتب فقه اللغة، ومعاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني "، وهذا هو ثاني علوم اللغة العربية تدوينًا.
الثالث: علم البيان:
وهو ثالث علوم العربية تدوينًا بعد عِلمَىْ النحو واللغة.
أ – موضوعه: اعلم أن علوم النحو، والصرف، واللغة تتناول الكلمة المفردة، أما علم البيان فموضوعه الكلام المركب.
فعلم النحو ينظر في إعراب الكلمة، وعلم الصرف ينظر في بنية الكلمة، وعلم اللغة ينظر في معنى الكلمة، أما علم البيان فينظر في معنى الكلام المركب من أكثر من كلمة، من حيث موافقته لأساليب العرب في تركيب الكلام ليؤدي المعنى المطلوب بحسب حال السامع والمتكلم وظروف الكلام.
فجملة (زيدٌُ أخي) مركبة من كلمتين، والعرب يغيّرون تركيبهما باختلاف الأحوال، فقولي: (أخي زيدٌُ)، يختلف عن قولي: (زيدٌُ أخي)، ويختلف عن قولي: أن زيدًا أخي، ويختلف عن قولي: (إن زيدًا لأخي).
فالقول الأول خطاب لمن يعلم أن لي أخًا ويريد تعيينه، والقول الثاني خطاب لمن يعرف زيدًا ويجهل أنه أخي، والقول الثالث خطاب لمن يتردد، أو يشك في أن زيدًا أخي، والقول الرابع خطاب لمن ينكر أن زيدًا أخي.
والخطاب في الأحوال الأربعة مركب من نفس الكلمتين، ولكنه اختلف في التقديم والتأخير واستخدام المؤكدات ليوافق مقتضى الحال وهو اختلاف أحوال المخاطب هنا، وهذا هو معنى قول القائل (لكل مقام ٍ مقال).
ومثاله في التنزيل قوله تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (يّس:13 - 16). فقال في المرة الأولى (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وفيها مؤكد واحد (إنّ)، وقال في الثانية (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)، وفيها مؤكدان (إنّ واللام) لما أصّروا على الانكار.
وقد يُنزَّل غير المنكر منزلة المنكر باعتبار معين، كما في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) (المؤمنون:15)؛ فهذا خطاب مؤكد بمؤكدين (إن واللام) وهو خطاب لمن ينكر وقوع الموت، ولايخفى أن أحدًا لاينكر ذلك، ولكن لما كان الناس في غفلةٍ وإعراضٍ عن العمل لما بعد الموت كانوا بمنزلة المنكرين لوقوعه.
¥