فَعُلِمَ البيان موضوعه النظر في الكلام المركب من حيث اللفظ والمعنى جميعًا، في حين أن علوم النحو والصرف واللغة تنظر إلى الكلمة المفردة إعرابًا وبنية ومعنى على الترتيب، وإذا وافق تركيب الكلام أساليب العرب في إفادة المعنى سُمّي الكلام بليغًا، وإلا فهو ركيك.
وتُعرَّف البلاغة بأنها: " مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك "، أو البلاغة هى: " تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبِّق الكلام على مقتضى الحال ".
وسَمَّى علماء اللغة المتقدمون هذا العلم (بعلم البيان) كالجاحظ 255 هـ في كتابه (البيان والتبيين).
في حين سماه العلماء بعد ذلك (بعلم البلاغة) كالزمخشري 538 هـ في كتابه (أساس البلاغة)، وصار علم البلاغة مشتملاً على ثلاثة علوم وهى:
" المعاني والبيان والبديع "
والأَوْلى تسمية هذه العلوم بعلم البيان كما سمّاه الأقدمون - لا البلاغة - لأن البيان هو اللفظ الذي وصف الله تعالى به كلامه وهو أبلغ الكلام، قال تعالى (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يوسف:1)، و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (الشعراء:2)، و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (القصص:2). فقال سبحانه (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ولم يقل الكتاب البليغ، واطرد هذا في بقية الآيات كقوله تعالى (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر:1)، وقوله تعالى (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: من الآية103)، ولم يقل لسان عربي بليغ، هذا والله تعالى أعلم.
ب - ثمرة هذا العلم: هى أيضًا من جهة تحمُّل اللغة بفهم معاني الكلام البليغ كنصوص الكتاب والسنة على أكمل وجه، ومن جهة أداء اللغة: بأن يركِّب المتكلم كلامه بما يؤدي المعنى المراد على أكمل وجه.
وقال ابن خلدون – رحمه الله تعالى – في " المقدمة " صـ 552 - 553:
" إن ثمرة هذا الفن - أي علم البيان - إنما هى في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقه ومفهومه وهى أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه، وإنما يدركُ بعض الشئ منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه- إلى قوله - وأحوج مايكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غُفُلٌُ عنه - حتى - ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يُبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع " اهـ.
والبدع التي نصرها الزمخشري في تفسيره (الكشّاف) هى آراء المعتزلة، وقال الشيخ سراج الدين البلقيني 805 هـ - وهو من شيوخ الحافظ ابن حجر – قال: إنه استخرج الاعتزال من الكشاف بالمناقيش.
جـ - تدوين علم البيان:
تميزت علوم البلاغة إلى ثلاثة، وهى المعاني والبيان والبديع، ولكل علم موضوعه ومسائله.
فعلم المعاني موضوعه الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى الذي يريد المتكلم إيصاله إلى ذهن السامع، وعلم البيان موضوعه الاحتراز عن التعقيد المعنوي أي عن أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد، وعلم البديع المراد به تحسين الكلام بالمحسنات المعنوية واللفظية، وهو تابع للعلمين السابقين إذ بهما يُعرف التحسين الذاتي، وبه يعرف التحسين العرضِي.
وقد بدأت الكتابة في هذه العلوم دون تمييز بينها ودون تحرير لمسائلها ومن أقدم مابلغنا من هذه الكتابات: كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر) 255 هـ، وكتاب (الصناعتين) لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري 395 هـ.
وأول من ميّز مسائل هذه العلوم هو عبد القاهر الجرجاني 471 هـ، وله في ذلك (كتاب دلائل الإعجاز) في علم المعاني، وكتاب (أسرار البلاغة) في علم البيان، إلا أنه لم يستوف مسائل هذه العلوم.
حتى جاء أبو يعقوب يوسف السَّكَّاكي 626هـ، فاستكمل مسائل هذا الفن وهذّبها ورتب أبوابه، وذلك في كتابه (مفتاح العلوم) وهو يشتمل على ثلاثة أقسام للصرف والنحو والبلاغة.
¥