11 - تَعَجَّبُ مِنْ خَطِّي وَلَفْظِي كَأَنّمَا ** تَرَى بحُروُفِ السَّطرِ أَغْرِبَةً عُصْمَا
تَعَجَّبَتْ من كتابه لطول عَهْدها به، كأنّها رأت غراباً أعصم - وهو قليل في جنسه - لاستغرباها أن ترى كتابه.
12 - وَتَلْثُمُهُ حَتَّى أّمصَارَ مِدَادُهُ ** مَحَاجِرَ عَيْنَيْها وَأَنْيَابَها سُحْمَا
سَوَّدَ محاجرها كثرة مَسْحِها به.
13 - رَقَا دَمْعُهَا الجَارِي وَجَفَّتْ جُفُونُهَا ** وَفَارَقَ حُبِّي قَلْبَها بَعّفدَما أَدْمَى
انقَطع دَمْعُها وجفت الجفون، وأقلع الحب، ولكن بموتها.
14 - وَلَمْ يُسْلِهَا إلا المَنَايَا وَإنَّما ** أَشَدُّ منَ السُّقْمِ الّذي أذهب السُّقْما
جاءت المنايا شاغلةً عن كُل شيء، فأذهبت سقم المحبَّة؛ لأنَّها أعظمُ وأَطمّ.
15 - طَلَبْتُ لَهَا حَظاًّ ففاتَتْ وَفَاتَنِي ** وَقَدْ رَضِيَتْ بي لو رَضِيتُ لَهَا قِسْمَا
يروى: «رَضِيُت لها»، و «بها» جميعاً.
أي: فاتَني ما كُنْتُ أطْلُبُه لها، وفاتَتْنِي - أيضاً - بموتها، وكانت راضيةً بي وحدي لو كنت أنا أرضى أيضاً.
16 - فَأَصْبَحْتُ أسْتَسْقِي الغَمَامَ لِقَبْرِهَا ** وَقَدْ كُنَتُ أَسْتَسْقِي الوَغَى والَقَنَا الصُّمُّا
أصبح يَسْتَسْقي لها الغمام جَهْدَ المقل، وكان قبل ذلك يركب المخاوف حتى يبلغ لها إلى ما تَشْتَهي.
17 - وَكُنْتُ قُبَيْلَ الموتِ أسْتَعْظِمُ النَّوى ** فقد صَارَتِ الصُّغرَى الَّتي كانَتِ العُظْمَى
استعظم النّوى فصغَّرها الموت.
18 - هَبِيني أَخَذْتُ الثَّأْرَ فِيكِ مِنَ العدَى ** فَكَيْفَ بِأَخْذِ الثَّأْرِ فِيكِ مِنَ الحُمَّى؟!
ثمَّ اعتذر إليها بالعجز عن أخذ الثأر من مرض الموت.
19 - وَمَا انْسَدَّتِ الدُّنْيَا عَلَيَّ لِضِيقِهَا ** وَلكنَّ طَرْفاً لا أرَاكِ بِهِ أَعْمى
ليست الدنيا ضَيِّقَةً فأشكو انْسِدَادَها في وجْهِي، ولكنِّي بمنزلة الأعمى الذي لا يهتدي للسلوك فيها لعماه، وإنّما ذلك لأني لا أراكِ فيها.
20 - فَوَاأَسَفِي أَلاّ أُكِبَّ مُقَبِّلاً ** لِرَأْسِكِ والصَّدْرِ اللّذَيْ مُلِئَا حَزْماً
حذف حرف الجر لطول الكلام بـ «أنْ» وما اتصَل بها. نون الّذَيْ محذوفة في التثنية، كما تحذف في الجمع لطول الاسم بصلته
21 - وَأَلاَّ أُلاَقِي رُوحَكِ الطَّيِّبَ الَّذي ** كأنَّ ذَكِيَّ المِسْكِ كان له جِسْمَا
الرُّوح: مذكر، وإنما يؤنث على معنى النفس كما تذكر النفس على معنى الرُّوح والجَسَدْ.
22 - وَلَوْ لَمْ تَكُونِي بِنْتَ أَكْرَمِ وَالِدٍ ** لَكَانَ أَبَاكِ الضّخْمَ كَوْنُكِ لي أُمَّا
أي: إذا قيل هي أم المُتَنَبِّي كان ذلك نسباً عظيماً فكيف وهي بنت والدٍ عظيم، ولما كان الضخم يناسب العظمة في المعنى استعمله في معناها.
صدق في عظَمها بأنّها جدته لا بأبيه الذي [هو] عَيْدان السقّاء زوج ابنتها.
23 - لَئِنْ لَذَّ يَوْمُ الشَّامِتِينَ بِيَوْمِهَا ** لَقَدْ وَلَدَتْ مِنِّي لآنُفِهمْ رُغْمَا
24 - تَغَرَّبَ لا مُسْتَعْظِماً غَيْرَ نَفْسِهِ ** ولا قَابِلاً إلا لِخَالِقِهِ حُكْمَا
«مستعظماً» حال، وكذا المنصوبات بعده.
25 - ولا سَالِكاً إلاّ فُؤَادَ عَجَاجَةٍ ** وَلا وَاجِداً إلا لمَكْرُمَةٍ طَعْمَا
26 - يَقُولُون لي: ما أَنْتَ؟ في كُلِّ بَلْدَةٍ ** وما تَبْتَغِي؟ ما أبْتَغي جَلَّ أن يُسْمَى
«ما أنت» أي: أي شيء فَنُّكَ وَصِنَاعَتُكَ؛ لأن «ما» صفة لما يعقل واسم لما لا يعقل ثم قال: الذي أبتغى أعظم من أن يُسَمَّى؛ لأنه يَبْتَغى أن يغلب على بعض الممالك.
27 - كأنَّ بَنِيهِمْ عَالِمُون بأَنَّنِي ** جَلُوبٌ إليهِمْ مِنْ مَعَادِنِه اليُتْمَا
الضمير في «بنيهم» عائد على الذين قالوا له: «ما أنت». كأنّ الأولاد علموا بأنَّه يَقْتُلُ آباءهم وَيُؤتِمَهُم.
28 - وما الجَمْعُ بَيْنَ المَاءِ والنَّارِ في يَدي ** بِأصْعَبَ مِنْ أَنْ أَجْمَعَ الجَدَّ والفَهْمَا
قيل لأفلاطن: لم لا يجتمع العلم والمال قال: لعزَّة الكَمَال
29 - وَلَكنَّنِي مُسْتَنْصِرٌ بِذُبَابِهِ ** وَمُرْتَكِبٌ في كُلِّ حال به الغَشْمَا
«ذبابه» أي: ذباب السيف، أضمره ولا ذكر له للعلم به.
30 - وَجَاعِلُهُ يومَ اللِّقاءِ تَحيّتِي ** وَإلاَّ فَلَسْتُ السَيِّدَ البَطَلَ القَرْمَا
يجعل السيف تَحِيَّته يوم اللقاء كما قال عمرو بن معدى كرب:
تَحِيَّةُ بَيْنَهم ضَرْبٌ وَجيعُ
31 - إذا فَلَّ عَزْمِي عَنْ مَدًى خَوْفُ بُعْدِهِ ** فَأَبْعَدُ شَيْءٍ مُمْكِنٌ لَمْ يَجِدْ عَزْما
لا يُوصَلُ إلى شَيْءٍ البتة إلا بالعَزْمِ عليه، وإذا كنت تحتاج إلى العزم لنيل القريب لتدركه به فاعزم أيضاً على البعيد لتناله، ولا يَمْنَعْكَ خوف بُعْده فإنّه يَقْرُبُ بالعزم.
32 - وَإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنَّ نُفُوسَنَا ** بها أَنَفٌ أن تَسْكُنَ اللّحْمَ والعَظْمَا
يريد أن نُفُوسَهُمْ لكثرة تَعَرُّضِهِم للحرب والقتل كأنَّهَا تأنف من مساكنة الأجساد فهى تَتَطَلَّعُ إلى سُكْنَى غيرها؛ لاختيارها القتل والخروج من أَجْسَادِهَا.
33 - كَذَا أنا يا دُنْيَا إذا شِئْتِ فَاذْهَبِى ** وَيَانَفسُ زِيدِى في كَرَائِهِهَا قُدْمَا
34 - فلا عَبَرَتْ بي سَاعَةٌ لا تُعِزُّنِي ** ولا صَحِبَتْنِي مُهْجَةٌ تَقْبَلُ الظُّلْمَا
شَدَّ ما أغرب فأعرب عن عِزَّة نَفْسِهِ وقومه، وَتَرَفُّعِهِ عن الانقياد للدُّنيا وأَهْلِهَا، ودعا على نفسه بالفناء [إن] قَبِلَ ضَيماً أو فَقَد عِزاًّ.
(99)
وجعل قَوْمٌ يستعظِمُون ما قاله في آخر المرثية فقال:
1 - يَسْتَكْثِرُونَ أُبَيَّاتا نَأَمْتُ بِهَا ** لا تَحْسُدُنَّ على أَنْ يَنْئَمِ الأَسَدَا
ويروى «يستكبرون» بالباء، و «يستعظمون». ونصب «الأسد» على إعمال الفعل الأول وهو رَأْيُ الكوفيين.
2 - لَوْ أَنَّ ثَمَّ قُلَوبا يَعْقِلُونَ بِهَا ** أَنْسَاهُمُ الذُّعْرُ مِمَّا تَحْتَها الحَسَدا
«ثمَّ» أَصلها أن تكون إشارة إلى الأمكنة، وَضِداًّ لِهُنا، وقد تُسْتَعْمَلُ في غير الأمكنة اتساعا، وهى هاهنا بمعنى لهم. أي: لو أنّ لهم قلوبا.
¥